عرض مشاركة واحدة
  #45  
قديم 12-13-2018, 01:58 PM
بهاء الدين شلبي بهاء الدين شلبي متواجد حالياً
المدير
 Egypt
 Male
 
تاريخ التسجيل: 16-12-2013
الدولة: القاهرة
العمر: 56
المشاركات: 6,739
معدل تقييم المستوى: 10
بهاء الدين شلبي تم تعطيل التقييم
افتراضي

"وإذا ما تركنا كتب اليهود والنصارى المقدسة إلى شعوب العالم القديم، لرأينا أن الحجاب إنما كان معروفا منذ أقدم العصور في بابل وآشور وفارس والروم والهند، بل إن النساء الروميات إنما كن مغاليات في الحجاب في العهد الأول للجمهورية، حتى إن القابلة كانت لا تخرج من دارها إلا مخفورة، ووجهها ملثم، وعليها رداء طويل يامس كعبيها، وفوقه عباءة لا تبدي شيئا من قومها. وهناك ما يشير إلى أنهم كانوا يحرمون على المرأة الظهور بالزينة في الطرقات قبل الميلاد بمائتي سنة، ومن ذلك "قانون أوبيا" (dex oppia) الذي يحرم على المرأة المغالاة في الزينة حتى في البيوت.

هذا وقد عرف الفرس الحجاب كذلك، كما عد كشف المرأة أو الرجل شيء من جسده غير الوجه، مظهرا منافيا للاحتشام والأدب، وكانت النساء تغطين أجسامهن من قمة الرأس إلى إخمص القدم، وفي أعقاب حكم دار الأول (522 ـ 486 ق.م) كان احتجاب نساء الطبقة الراقية عن المجتمعات نظاما ضروريا مراعى، فصرن لا يجسرن على الخروج إلا في هوادج تغطيها الستائر، وحظر عليهن أن يخالطن الرجال في مجتمع عام أو خاص، بل لقد منعت الزوجات من رؤية أدنى الرجال إليهن قرابة، حتى الآباء والإخوة.

وهكذا غلا المترفون الأقدمين في حال الحجاب والتسريح، فحجبوا المرأة ضنا بها، وسرحوها هوانا عليهم لأمرها، وأوشك إعزازها أن يكون شرا عليها من هوانها، فإذا عزت عندهم فهي طير حبيس في قفص مصنوع من معدن نفيس أو خسيس، وإذا هانت سرحوها ليبتذلوها في خدمة كخدمة الدابة المسخرة، حريتها الموهومة ضرورة من ضرورات التسخير والاستعباد.
ولم تكن المرأة العربية في الجاهلية تعيش في عالم غير عالم الناس، ومن ثم فقد وجدنا عنند العرب – كما وجدنا عند غير العرب – من النساء من كن سافرات، ومن كن محتجبات، وليس في هذا تناقض أو شذوذ، لأن المجتمعات كثيرا ما تتباين عاداتها، وتتغاير نظمها في البيئة الواحد، والعصر الواحد.

وأما أدلة الحجاب في التاريج العربي القديم فكثيرة، منها (أولاً) أن النساء الثموديات يصورن أحياناً بشعور طويلة، وأحيانا يحملن فوق رؤسهن سلالاً، وقد ارتدين أثوابا طويلة، تنزل حتى العرقوب، ومن أسمائهن نعرف أنهن كن يرتدين خماراً "رطت" فوق الرأس، كما يبدو ذلك واضحاً في النقوش البارزة التي تزين قصر العاصمة الآشورية نينوي.

ومنها (ثانياً) أن حرب الفجار الثانية، إنما كان سببها عبث فتية من قريش وكنانة بامرأج من بني عامر بن صعصعة، وكانت وضيئة حسنة رأوها بسوق عكا'، فأرادوا منها أن تكشف لهم عن برقعها، فثارت، ونادت: يا آل عامر، ونادى الشباب قومهم، فالتحموا في قتال بسبب ذلك، وانتهى الحادث بتوسط حرب بن أمية والحارث بن أمية، باحتمال دماء القوم.

ومنها (ثالثاً) ما يروى في سبب اعتلاق عبد الله بن علقمة – آحد بني عامر بن عبد مناة بن كنانة – بصاحبته "حبيشة بنت حبيش العامرية"، من أنه ذهب مع أمه لزيارة آل حبيشة، فأجلسه أهلها في متحدث لهم، وكانت حبيشة قد زُيَنت لأمر كان في الحي، وعلى وجهها "سِبْ" أخضر فضربه الهواء فانكشف وجهها ويداها، فهام بها عبد الله.

ومنها (رابعا) أن هنداً بنت صعصعة إنما كانت تفاخر بقولها: "من جاءت من نساء العرب بأربعة، كأربعة يحل لي أن أضع خماري معهم فلها صِرْمى: أبي صعصعة، وأخي غالب، وخالي الأقرع، وزوجي الزبرقان بن بدر"، وهي ذات الخمار، لأنها دخلت على هؤلاء الأربعة، فألقت خمارها، فقالوا لها: ما هذا، ولم تكوني متبرجة، قالت: داخلتني خيلاء حين رأيتكم، فأي امرأة من العرب وضعت خمارها عند مثلكم فلها صرمتي".

ومنها (خامساً) أن هناك من أمثال العرب ما يؤيد معرفتهم للحجاب، ومن ذلك قولهم "إن العَوَان لا تعلم الخِمْرة"، أي لا يحتاج إلى تعلم الإختمار، يضرب مثلاً للرجل المحرب.

ومنها (سادساً) أن الشعر العربي مليء بالإشارات إلى الحجاب، وهكذا رأينا "أم عمرو بنت وقدان" تحرض قومها على الثأر، وإلا فعليهم أن يدعوا السلام وينكحلوا ويتنقبوا كالنساء.

إن أنتـم لم تطلبــوا بأخيــــكم *** فذروا الســلاح ووحشـوا بالأبـرق
وخذوا المكاحل والمجاسد والبسوا *** نقب النساء فبئس رهط المرهق

وهكذا كان الحجاب معروفا عند العرب ـ وعند غير العرب ـ في عصور ما قبل الإسلام، يستعمله قوم ويتركه آخرون، بل تستعمله نساء وتتركه أخريات من بين نساء القوم أنفسهم، وهكذا جاء الإسلام والحجاب في كل مكان، بدرجة أو بأخرى، فصنع منه ما صنعه بكل تقليد وجده، لا ضرر ولا ضرار، ومن ثم فقد أصلح منه ما يفيد ويعقل، لم يجعله كما كان عنوناً لا تهام المرأة، أو عنواناً لاستحواذ الرجل على ودائعه الخفية، بل جعله أدباً خلقياً يستحب من الرجل ومن المرأة، ولا يفرق فيه بين الواجب على كل منهما، إلا لما بين الجنسين من فارق في الزينة واللباس والتصرف". [1]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] مهران؛ د. محمد بيومي/ (مركز المرأة في الحضارة العربية)/ مستلة من مجلة كلية العلوم الاجتماعية – جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية – العدد الأول 1397هـ - 1977م. [صفحة: 254؛ 257].



رد مع اقتباس