عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 01-03-2015, 01:52 AM
مسلم مسلم غير متواجد حالياً
عضو
 Morocco
 Male
 
تاريخ التسجيل: 19-12-2013
الدولة: DRT
المشاركات: 678
معدل تقييم المستوى: 11
مسلم is on a distinguished road
افتراضي



الدولة القرمطية في بلاد البحرين - واحة القطيف

حظي تاريخ قرامطة البحرين والاحساء بعناية كبيرة من قبل الباحثين في عصرنا، الى حد أن تاريخ القرامطة بات بالنسبة لبعضهم هو تاريخ قرامطة البحرين، ولهذا أهملوا تاريخ قرامطة الاحساء والبحرين.

وكان من أوائل من اهتم بهم اهتماماً زائداً المستشرق الهولندي دي.خويه، ودفع هذا الاهتمام المستشرق البريطاني برنارد لويس الى القول:"وتاريخ هذه الطائفة الظاهري معروف الى حد ما، وليس لدينا الا شيء قليل نستطيع أن نضيفه الى دراسات دي خويه في هذا الموضوع(1)، وركز لويس جهوده على تحقيق علاقة هذه الطائفة بالدعوة الاسماعيلية الفاطمية، فأثبتها من حيث الأصول والبدايات".

وترتبط بدايات الدعوة القرمطية بالبحرين بالحركة القرمطية في سواد الكوفة أيام حمدان بن الأشعث وعبدان، أي ببدايات ظهور القرامطة تاريخاً، ففي تلك الحقبة جرى ارسال داعية الى منطقة هجر يدعو بين قبائلها وكان على رأس هذه القبائل عقيل وكلاب من قبائل عامر بن صعصعة(2).

ومن المرجح أن اسم هذا الداعية كان "أبو زكريا يحي بن علي الطمامي" ويرجح أن انفاذ هذا الداعية كان سنة 281هـ/894م، ثم ألحق بعد أمد بأبي سعيد الحسن بن بهرام الجنابي، ويلاحظ أن هذا قد تم بعد القضاء على ثورة الزنج في سواد البصرة وتصفيتها نهائياً، وبالتالي استرداد بغداد لقسط كبير من عافيتها وقوتها، وذلك أن قائد الجيش بات عباسياً وليس واحداً من الغلمان الترك.

والتوجه نحو البحرين كان دوافعه أنها منطقة خليجية خاضعة للمؤثرات القادمة من البصرة، فيها قبائل كثيرة، فمما لاشك فيه أن الدعوة القرمطية قد استغلت فرصة القضاء على ثورة الزنج وأرادت استغلال التشيع الذي انتشر بين قبائل الخليج، وهذا قد يساعد على فهم وتعليل سرعة الاستجابة التي لقيها الطمامي أولاً ثم الجنابي بعده.

لقد قام الجنابي بتصفية الطمامي، فبعد ما عطله عن النشاط الدعوي قتله، ويمكن أن نرى في هذا الاجراء خطوة علمت بداية تمرد على دعوة العراق، ويرجح أن هذا قد حدث بعد استيلاء زكرويه من مهروية على مقاليد هذه الدعوة، وتصفيته لكل من عبدان وحمدان بن الأشعث(3)، الأمر الذي كان له أبعد الآثار على أبي سعيد الجنابي وخططه المستقبلية.

وبدأ أبو سعيد نشاطه في منطقة بلدة هجر قصبة البحرين، ولقي هناك معونة عشيرة قوية عرفت ببني سنبر، وتحالف أبو سعيد مع هذه العشيرة، وكان قوام هذا التحالف وقواعده: القيادة لأبي سعيد والمشورة (الوزارة) لآل سنبر، واستمر العمل بهذه القاعدة بعدما أفلح أبو سعيد في تأسيس دولة قرمطية في البحرين، فقد كانت السيادة في هذه الدولة لآل أبي سعيد والوزارة لآل سنبر وفق خطة محكمة.

لا نمتلك أدنى معلومات عن قيام إمامة الدعوة الاسماعيلية بمراسلة أبي سعيد أو توجيهه، ومرد هذا الى ما حل ببيت الامامة في السلمية في الشام، بسبب نشاط قرامطة الشام بزعامة صاحب الخال الذي ادعى الامامة ولقب نفسه بالمهدي، ودفع نشاط صاحب الخال بيت الامامة بالسلمية الى هجر هذه البلدة، حيث سافر إثنان معه نحو الرملة، فمصر فالمغرب، وهما: عبد الله المهدي المقبل، مؤسس الخلافة الفاطمية، ومحمد القائم الذي سيكون ثاني خلفاء الفاطميين.

وليس من المستبعد ـ لا بل من المرجح ـ أن نوعاً من الاتصالات قد جرى بعد قيام الخلافة الفاطمية في افريقية لكن ليس من المهم هنا قيام هذه الاتصالات، بل هو أن الدعوة في البحرين نشأت مستقلة عن التوجيه الاسماعيلي، والمثير للانتباه أن أبا سعيد لم يستغل هذا الاستقلال استغلالاً شخصياً بأن يدعي النسب العلوي، كما فعل زعيما قرامطة الشام، ويعلن نفسه اماماً، كما فعل، أو يعلن عن نفسه مهدياً من دون هذا النسب كما فعل على بن الفضل في اليمن.

لقد اكتفى أبو سعيد باتخاذ لقب "سيد" وسار في أتباعه سيرة "ديموقراطية" فكان على درجة عالية من التواضع، وهكذا كان أولاده من بعده، وركز جهوده الدعوية ونشاطاته الحربية، وأوقفها أولاً على أعمال الاستيلاء على هجر، فقد أقام على مقربة منها بلدة الأحساء، واتخذها قاعده له، وعندما تمكن من هجر دمرها، ونقل من اطاعه من أهلها الى الاحساء التي غدت الآن عاصمة لدولة لم يعرف تاريخ الخليج وشبه جزيرة العرب، بل بلاد العرب مثيلاً لها.

لقد أنشأ أبو سعيد مجتمعاً جديداً، أساسة خطة تجربة حمدان قرمط في سواد العراق حين أمر بإلغاء الملكية الخاصة، وأحل محلها الملكية الجماعية العامة، ودعا ذلك باسم "الألفة" وهي أنهم يجمعون أموالهم في موضع واحد، وأن يكونوا فيه أسوة واحدة، لا يفضل أحد من أصحابه على صاحبه، ولا أخيه في ملك يملكه البتة..، وقال لهم"لا حاجة بكم الى الاموال، فإن الارض بأسرها ستكون لكم دون غيركم..وأقام في كل قرية رجلاً مختاراً من الثقات، فجمع عنده أموال قريته من: غنم، وبقر، وحلي، ومتاع، وغير ذلك، فكان يكسو عاريهم، وينفق عليهم ما يكفيهم، حتى لم يبق بينهم فقير ولا محتاج، وأخذ كل رجل منهم بالانكماش في صناعته، والكسب بجهده، ليكون له الفضل في رتبه وجمعت المرأة اليه كسبها من مغزلها، وأدى إليه الصبي أجرة نطارته وحراسته ونحوه، ولم يبق في ملك أحد منهم غير سيفه وسلاحه لا غير(4).

وعلى قاعدة الداعية حمدان، قام أبو سعيد الجنابي في البداية بجمع صبيان اتباعه:"في دور، وأقام عليهم ما يحتاجون اليه ووشمهم لئلا يختلطون بغيرهم، ونصب لهم عرفاء، وأخذ يعلمهم ركوب الخيل والطعان، فنشأوا لا يعرفون غير الحرب، وقد صارت دعوته طبعاً لهم".

بوساطة هؤلاء عندما غدوا رجالاً أمن الجنابي البنية الأساسية لدولته، والعمود الفقري لنظامه، ومجتمعه، ويلاحظ هنا أن الجنابي لم يبدع هذه الطريقة، بل استعارها وطورها، فهي أساس تجربة جيش المعتصم من الغلمان والاتراك، وكانت ايضاً مطبقة، بشكل رائع في ثغور بلاد الشام، لا سيما في مدينة طرسوس، وسيستعير هذه التجربة عبد المؤمن بن علي بعيد تأسيسه لدولة الموحدين في المغرب الاقصى.

لقد ألغى أبو سعيد الجنابي ـ كما فعل حمدان من قبل ـ الملكيات الخاصة:"وقبض كل مال في البلد، والثمار، والحنطة، والشعير، واقام رعاة للإبل والغنم، ومعهم قوم لحفظها، والتنقل معها على نوب معروفة، وأجرى على أصحابه جرايات فلم يكن لأحد غير ما يطعمه، وتبعاً لهذا اتخذ اجراء بالغاء الضرائب وتأمين الحاجيات "للمواطنين" بالقسطاس المستقيم ولم تعد هناك حاجة الى النقود الذهبية والفضية، وقد اكتفى الناس بالتعامل بنقود خاصة من الرصاص، وكان هذا بين الاجراءات التي اتخذت للحفاظ على الثروة العامة "والرأسمال الوطني".

لقد أقام الجنابي مجتمعاً "اشتراكياً عسكرياً" من الطراز الأمثل، بشكل لم تعرف له سابقة من قبل، فقد أوقف وقته كله "على جمع الخيل، واعداد السلاح، ونسج الدروع والمخافر واتخاذ الابل واصلاح الرجال، وضرب السيوف والأسنة، واتخاذ الروايا والمزاود وتعليم الصبيان الفروسية وطرد الأعراب من قريته، وسد الوجوه التي يتعرف منها أمر بلده واحواله بالرجال واصلاح أراضي المزارع وأصول النخل واصلاح مثل هذه الامور وتفقدها، ونصب الأمناء على ذلك، وأقام العرفاء اللحم ليفرقوه على من ترسم لهم، ويدفع الرأس والأكارع والبطن الى العبيد والإماء، ويجز الصوف والشعر من الغنم، ويفرقه على من يغزله، ثم يدفعه الى من ينسجه عبياً وأكسية وغرائد وجوالقات، ويفتل منه حبال، ويسلم الجلد الى الدباغ، ثم الى خرازي القرب والروايا والمزاود، وإنما كان من الجلود يصلح فعالاً وخفاً عمل منه ثم يجمع ذلك كله الى خزائن.

فكان ذلك دأبه لا يغفله..فزادت بلاده وعظمت هيبته في صدور الناس".

ولم يبن الجنابي في بلدته المساجد، كما لم يقم بها صلاة الجمعة، وعلى هذا لم تعرف دولته الدعوة لخليفة أو إمام، فهو حين أنشأ دولته، لم تكن الخلافة الفاطمية قد قامت، وكان هو بالأساس معادياً للخلافة العباسية.

ويلاحظ ان "مواطني" دولة الاحساء عاشوا مع نظامها، وتعايشوا بكل اخلاص وانسجام.

وهذا مبني على أساس أن الأخبار لم تورد أية حوادث تمرد أو فتن داخلية، وعاش هذا النظام طويلاً، وهذا ما نلاحظه في وصف الاحساء، لدى ناصر خسرو، الذي زارها بعد ما يزيد على القرن ونصف القرن من تأسيسها.

لقد كانت دولة القرامطة هذه دولة "محاربين عقائديين" وقد احتاجت الى الخدمات العامة، وهذا ما قامت السلطة بتأمينه، حيث مكنت الحرفيين من العمل ومنحتهم الرساميل والمواد الأولية والحوانيت أما اعمال الزراعة والخدمات العامة فقد جرى تأمين ذلك بواسطة الرقيق، خاصة الأسود منه ودفع استخدام العبيد بعضهم الى القول:"إن دولة الاحساء لم تكن دولة "اشتراكية" محضة، إنما كانت دولة محاربين، وطبقت السلطة فيها نظام رأسمالية الدولة، وذهب آخرون الى القول:إن دولة القرامطة في البحرين قامت في منطقة خضعت بشكل متواصل الى التأثير الفارسي لا سيما الساساني منه، وأبو سعيد نفسه لعله كان من أصل ايراني، وعلى هذا إن نظام دولة القرامطة الذي قام فيها لم يكن سوى نظاماً متطوراً عن النظام الاقطاعي الساساني الذي شهر بنظام إقطاعيات الفرسان.

ومما لا شك فيه أن اتخاذ العبيد وتسخيرهم كان ثغرة في نظام دولة الاحساء، الدولة التي شهدت ساحات أصولها في العراق، قبل قيامها ثورة عارمة للزنج، لكن أما والاخبار لم تذكر أعمال تمرد أو شكوى للعبيد، يمكننا الافتراض أنها أحسنت معاملتهم، ولنتذكر في هذا المقام أن العقل البشري لم يتقبل الغاء الرق الا منذ زمن قصير نسبياً، وأن تجربة الاحساء قامت منذ أحدى عشر قرناً، وهي بلا شك تجربة ما تزال بعض دول الوطن العربي والعالم حالياً تتطلع الى ما يماثلها.

لقد بهرت تجربة الاحساء عقول معاصريها أيام أبي سعيد وخلفائه من بعده وهذا ما نشهده في محتويات المكتبة الجغرافية العربية، وعند بعض الكتاب المتأخرين نسبياً مثل البيروني، فقد تحدث المقدسي عن الاحساء فقال:"وبها مستقر القرامطة من آل أبي سعيد، ثم نظر وعدل، غير أن الدامع معطل" ووصف ابن حوقل ـ وهو جغرافي شامي اسماعيلي ـ أحوال دولة الاحساء بعد قرابة قرن مضى على تأسيسها، وذلك أيام الصراع بينها وبين الخلافة الفاطمية، وكان مما قاله:"وبها أموال وعشور ووجوه مرافق وقوانين ومراصد وضروب مرسومة من الكلف الى ما يصل اليهم من بادية البصرة والكوفة، وطرق مكة، وبعد اقطاع ما بالبحرين من الضياع بضروب ثمارها ومزارعها من الحنطة والشعيرة والنخل لأتباعهم المعروفين كانوا بالمؤمنين، ومبلغها نحو ثلاثين ألف دينار، وما عدا ذلك من المال، والأمر والنهي والحل والعقد، وماكان يصل اليهم من طريق مكة ومال عمان، وما وصل اليهم من الرملة والشام فمتساو فيه آراء ولد أبي سعيد الباقين، ومفاوضة أبي محمد سنبر بن الحسن بن سنبر، وكان أكمل القوم ثم تمكناً من نفسه، فإذا هموا بقسمة ما يصل اليهم من مال السنة، كان ذلك ليوم معلوم مذ لم يزالوا، فيعزل منه الخمس بسهم صاحب الزمان، والثلاثة الأخماس لولد أبي سعيد على قوانين وضعوها بينهم، وكان الخمس الباقي للسنابرة، مسلماً الى أبي محمد ليفرقه في ولد أبيه وولده، ويكونون نحو عشرين رجلاً، وكان ولد أبي طاهر فيهم يعظمون ويكرمون..وكان لهم من الثلاثة أخماس مال معلوم دون الجرايات عليهم من الغنائم بحسب منازلهم، دون مالهم من الضياع والنعمة المختصة بهم الى سنة ثمان وخمسين وثلاثمائة.

وكان من رسومهم ركوب مشايخهم وأولادهم فرادى، فيجتمعون الى قبلة الأحساء بالمكان المعرف بالجرعاء، ويلعب أحداثهم بالرماح على خيولهم، وينصرفون أفذاذاً بغاية التواضع وقد لبسوا البياض لا غير.

وكان من رسومهم أن تقع شورا هم بالجرعاء فيمن يخرجونه لما فدحهم وأهمهم، فإن اتفق رأيهم على خروجهم بأجمعهم، لم يتخلفوا ونفذوا، وتركوا في البلد، أوثقتهم وأشرفهم منزلة عندهم...وسمعت غير حاك من سني نيف وخمسين يحكي..أن سادتهم يتوزعون من مال البصرة والكوفة، وما يفيضونه من الحجاج، ويرد عليهم من مال عمان، والغنائم دون الخمس الخارج عنهم لصاحب الزمان ألف ألف دينار، وربما زادت المائة والمائتي ألف دينار(5).

وعندما وصلت أخبار أبي سعيد الى السلطات العباسية في بغداد عجلت بارسال جيش ضده، لحقته الهزيمة الماحقة، وكان وقع ذلك مخيفاً على سكان البصرة، حتى "عزم أهلها على الانتقال منها"، وأرسلت الخلافة العباسية الجيش تلو الآخر ضد القرامطة فأخفقت جميعاً، وخيِّل لكثير من الناس أن القرامطة باتوا قادرين على الاستيلاء على العراق واقتحام بغداد بالذات.

لا يتسع المجال في هذا البحث لاستعراض من أخبار المعارك بين القرامطة وبين الجيوش العباسية، وبالوقت نفسه يتعذر أيضاً تقديم تفاصيل النشاط العسكري القرمطي في شبه جزيرة العرب، وسأكتفي بالاشارة الى مجمل نشاطاتهم ضد قوافل الحج، وسأقف عند اقتحامهم لمكة المكرمة، وقتلهم الحجاج في المسجد الحرام، واقتلاعهم للحجر الاسود، وحمله معهم الى الاحساء.

وفي عودة نحو سر أخبار دولة أبي سعيد، نجد أن أبا سعيد قد جرى اغتياله في سنة 301هـ/914م، وقد قيل أن عملية الاغتيال كانت فردية بدون دوافع تآمرية داخلية أو خارجية، ويرجح أن لها علاقة بمقتل الطمامي، وبمشاكل داخل أركان الدعوة، وسترد بعض الاشارات الى هذا فيما يلي(6):

وتسلم السيادة بعده ابنه سعيد، مع أنه كان مستضعفاً، لكنه كان أسن إخوانه، ولهذا أولي ولمبدأ توريث السلطة دلالاته، فالجنابي وإن أسس دولة لها نظامها العسكري والاقتصادي والاجتماعي الخاص، الا أنه أسس بالوقت نفسه مملكة تدار من قبله ثم اسرته من بعده.

وحدث في أواخر أيام أبي سعيد أن عمدت الخلافة العباسية الى ارسالة سفارة اليه، وعندما وصلت هذه السفارة الى البصرة علمت بمصرعه، فرادعت علي بن عيسى وزير الخلافة، فطلب منها الذهاب الى الاحساء، وتسليم الرسالة التي بحوزتها الى خليفة أبي سعيد، وكان مما جاء في رسالة الخلافة:"زعمت أنك رسول المهدي، وقد قتلت العلويين وسبيت آل الأخضر العلويين، ومن باليمامة، واسترققت العلويات، وغدرت بأهل البحرين".

فأجاب سعيد بن أبي سعيد:"إن أهل البحرين بغوا علينا، وغدروا بنا، وقالوا: إنا نشترك في أزواجنا، ونرى الاباحة وتعطيل الشريعة، وقد كذبوا علينا، ونحن قوم مسلمون، وما نحل من اتهمنا بغير الاسلام".

وواضح أن هذا الجواب، جواب أسرة ملكية حاكمة لدولة موطدة الأركان، وحديث الملوك غير حديث الدعاة والثوار، وعلى هذا الاساس شجعت هذه الاجابة الوزير القدير علي بن عيسى، فكتب مجدداً الى سلطات القرامطة يقول:" إن كنتم صادقين فأطلقوا من في أيديكم من أسارى المسلمين" واستجاب القرامطة "فأطلقوا نحو ثلاثين ألفاً وأظهروا الاسلام والصلاة وقراءة القرآن" ولعل هذا يفيد أن السلام ساد بين القرامطة والسلطات العباسية، لكن ذلك ما كان ليمر بدون ردات فعل بين القرامطة، لذلك أقدم القرامطة سنة 305هـ/917م على خلع سعيد، حيث حل محله أخوه أبو طاهر سليمان.

واختلفت شخصية أبي طاهر عن شخصية سعيد، فقد مثل أبو طاهر التطرف الشديد، ففي أيامه نشط قرامطة البحرين عسكرياً بشكل هائل ومرعب، وتركز هذا النشاط بشكل خاص ضد قوافل الحجاج، ثم أضعف العباسيين وشل قواتهم عن العمل، ويلاحظ في هذا المقام أن ولاية أبي طاهر تلت حادثة عزل علي بن عيسى عن الوزارة في بغداد، وحدث تبدل في المواقف الرسمية العباسية، وتزامن أيضاً مع استقرار الأمور في افريقية للمهدي الفاطمي، وشروعه في ارسال الجيوس ضد مصر لاحتلالها، ويبدو أن الاتصالات قد قامت في هذه الآونة بين الخلافة الفاطمية والقرامطة، ووضعت الخطط للتنسيق في الجهود العسكرية بين الطرفين والذي طلبته الخلافة الفاطمية من القرمطة هو الضغط على العراق، والضغط ايضاً على السلطات الاخشيدية في الشام وهذا ما حصل(7).

وقد يسهل علينا فهم هذا واستيعابه سياسياً وعسكرياً، لكن كيف لنا أن نفهم تعاظم النشاط ضد قوافل الحجاج، وأخيراً مهاجمة مكة واستباحتها مع انتزاع الحجر الاسود؟.

في عودة الى تاريخ الخلافة الفاطمية، نجد أن مؤسسها حمل لقب "المهدي" ومن المرجح أنه كان "امام استيداع" ولم يكن "امام استقرار" وحمل الخليفة الثاني لقب "القائم" ورتبة القائم لدى الاسماعيلية أعلى من رتبة المهدي، والقائم كما يقول القاضي النعمان هو "سابع سبعة من آدم، ودوره آخر الأدوار" والانبياء ذوي العزم عند القاضي النعمان سبعة أولهم آدم، وثانيهم نوح، وثالثهم إبراهيم، ورابعهم موسى، وخامسهم عيسى، وسادسهم محمد، وسابعهم القائم، والقائم هو الذي يعلن القيامة، أي يتولى الغاء الديانات جميعاً واحلال ديانة جديدة محلها قائمة على الكشف المطلق الامر الذي سنراه في أيام الحاكم بأمر الله وتأسيس العقيدة الدرزية.

قد أرادت الدعوة الاسماعيلية - وساطة القرامطة- قاف الحج بشكل نهائي، بواسطة مهاجمة قوافل الحجاج، وقطع طرق الحج، لكن عندما أخفقت هذه الخطة، وهاجم أبو طاهر ـ كما سنرى ـ مكة في أيام الموسم، وقتل الحجاج، واقتلع الحجر الاسود، لأن الاسماعيلية والقرامطة اعتقدوا أنه مغناطيس القلوب "يجذب الناس اليه من اطراف العالم".

والحج هو شعيرة تميز بها الاسلام، وهو الركن الوحيد المعلن بشكل عالمي ظاهري، فيه تعبير واضح عن استمرارية الاسلام والعمل بمبادئه أممياً، ذلك أن بقية الأركان: الصلاة، ودفع الزكاة، وصوم رمضان، مع التلفظ بالشهادتين، شعائر يمكن أن تمارس بشكل فردي وسري، لكن الحج لا يمارس الا في بقعة محددة وبصورة علنية واستمرار الحج معناه تعطيل خطط اعلان القيامة والاخفاق في تعطيل الشريعة، والاضطرار الى مسايرة الاوضاع الظاهرة، وهذا يفقد الدعوى الاسماعيلية مسوغاتها الدينية الخاصة بها.

وروى ثابت بن سنان الصابئي (ت 365 هـ/976م) في تاريخه الذي ذيل به تاريخ الطبري، أخبار الحملة القرمطية على مكة فقال"وفي سنة سبع عشرة وثلاثمائة خرج بالناس الى الحج من بغداد منصور الديلمي ـ أميراً للحجاج بأمر الخليفة، ليحج الناس فسلموا في الطريق من بغداد الى مكة، فلحقهم أبو طاهر القرمطي بمكة يوم التروية، أي قبل طلوعهم عرفات بساعات قليلة، فقاتلهم أمير مكة، ومن معه، ولم يكن الا القليل حتى هزمهم، وأعمل فيهم السيف ونهب الحجيج، وقتل الحجاج حتى في المسجد الحرام، وفي البيت نفسه، ورمى القتلى في بئر زمزم، حتى امتلأت بجثث القتلى، وخلع باب الكعبة، ووقف يلعب بسيفه على باب الكعبة، وينشد ويقول:

أنا بالله وبالله أنا * يخلق الخلق وأفنيهم أنا


وحار الكتاب في تعليل هذه الحادثة فالأوائل عللوها ردة الى الديانة الزرادشتية (المجوسية) والى عبادة النيران، وهذا بعيد الاحتمال، ورأى آخرون فيها تمرداً على الفاطميين ورفضاً لسلطتهم، وفي هذا ايضاً ما فيه، اذا أخذنا بعين الاعتبار أوضاع الخلافة الفاطمية آنذاك، ذلك أنها كانت تقاتل من أجل البقاء ضد تحالف النكارية مع مالكية إفريقية ومساندة قرطبة.

التعليل يظل قائماً في مضامين العقيدة الاسماعيلية حول مسألتي الكشف عن علوم الباطن، واعلان القيامة العظمى مثلما سيحدث في أيام الحاكم بأمر الله والمثير للانتباه أن كلا من أنوشتكين الدرزي والطمامي لا قيا الموت على يدي من وجههما.

فالأمر لم يطل بزكريا الطمامي، فقد حاول الانفراد بالأمر بالاحساء وتصفية آل أبي سعيد الجنابي وآل سنبر، لذلك سارع أبو طاهر فقتله وتخلص منه.

ويبدو أنه عندما أعلن عن تأليه زكريا الطمامي، جرى الاعلان عن أبي طاهر إماماً مهدياً، فهذا ما يستفاد من شعر أورده له البيروني، ويتوافق هذا مع ما حصل لحمزة بن علي الزوزني أيام الحاكم بأمر الله، في المرحلة الثانية لتصفية الدرزي(8).

ومهما يكن الحال، لقد كان لهذا الحدث أثره الكبير على أوضاع القرامطة عامة، ومسألة القيادة والطاعة لأبي طاهر (سيكون سبيه هذا مع الحاكم بأمر الله)، فقد "صار أصحابه لا يمتثلون أمره كما كان، وقد كانوا لا يخالفونه في شيء البتة، وكان أي شيء نهبوه أو غنموه يسلموه اليه، ولا يخونونه في شيء منه لأنه حجة الله..فصار..لا يعطونه ما ينهبونه وصاروا يشربون الخمر، ويسمعون القيان، ويطلبون المواخير، واذا جاءهم العرفاء وقالوا لهم: هاتوا ما غنمتم لم يعطوهم واذا قالوا لهم: السيد يأمركم بكذا" وجهوا أقبح الشتائم للسيد.

لقد سبب نشاط القرامطة في شبه الجزيرة اندفاع اعداد هائلة من رجال القبائل العربية خاصة من قبائل عامر بن صعصة ـ نحو قبائل الشام والعراق، ومع اتساع عمليات القرامطة أيام أبي طاهر جرى زيادة في الاعتماد على رجالات هذه القبائل عن طريق الاغراء بالغنائم ودفع الأموال، وأخذ العباسيون بدورهم يسعون لشراء ولاء بعض زعماء القبائل، كما أن بعض هؤلاء شرع يفكر بالعمل لصالحه ولمنفعته الخاصة(9)، مما قاد الى تأسيس حكم الدولة المرادسية في حلب وحكم الدولة العقيلية في الموصل وحكم نمير في حران وقشير حول قلعة جعبر.

ولقد خفت حدة نشاط أبي طاهر القرمطي، لكنه لم يتوقف وتجددت الاتصالات بينه وبين بغداد، وطلبت السلطات العباسية منه منذ عام 322هـ/934م عدم التعرض لقوافل الحج، ورد الحجر الاسود، وذلك في مقابل اعتراف الخليفة العباسي به أميراً على البلاد التي يحكمها، وبعد أمد تم التوصل الى اتفاق، وبات على الخلافة العباسية بموجبه الاكتفاء بالاعتراف بأبي طاهر، بل بدفع مبلغ كبير من المال له اتاوة سنوية، ويبدو أن مرد هذا الاتفاق لا يعود الى الازمة الداخلية التي وقعت بسبب زكريا الطمامي فحسب، بل الى الاخفاق في قطع الحج، والى ما لحق الدولة الفاطمية ونزل بساحتها إثر وفاة المهدي سنة 322هـ/934م بقيام ثورة أبي يزيد مخلد بن كيداد النكاري، ولم يوقف هذه الحملات الفاطمية ضد مصر، لا سيما أن حكام الشام ومصر من الاخشيديين أخذوا يدفعون للقرامطة إتاوة سنوية عالية على غرار الخلافة العباسية(10).

وظل أبو طاهر سيداً لقرامطة الاحساء والبحرين حتى سنة وفاته في 332هـ/944م، لعل بين أهم ما حصل في العقد الاخير من حياته هو أخذ حركة قرامطة الاحساء والبحرين شكل دولة، والدولة في العادة تتعامل بالسياسة حسبما تمليه المصالح، وانشاء الدولة معناه اما وصول الثورة الى غاياتها القصوى، أو قناعتها بعدم إمكان حصول ذلك، والاكتفاء بما تحقق من مكاسب، وفي هذا انكماش وبداية تراجع وسير في دروب الانهيار، وهذا ما حصل بالفعل بالنسبة لقرامطة البحرين، صحيح أن دولتهم لم تزل من الوجود فوراً، وعاشت لحقبة طويلة لكنها عاشت على الهامش، يحجبها عن أماكن التأثير الفاعلة في العالم الاسلامي محيطات من رمال الصحراء.

ومن جديد لا بد من الاشارة الى اعتماد القرامطة على القوة المسلحة المدمرة فقط دون ارفاق ذلك بعمل دعوي منظم قد أضر بهم ضرراً بالغاً، وحال دون انتشار مبادئهم، المشكلة الاساسية في تاريخ القرامطة أنهم اهتموا بأوضاعهم الداخلية، لكنهم لم يتلفتوا الى قضية سمعتهم الخارجية، ونسوا أنهم لئن ملكوا القوة المدمرة لوقت من الأوقات، فإن من قهروهم وأنزلوا بهم الضربات الموجعة كانوا أكثر منهم عدداً وعدة، وأمامهم فرص استرداد القوة، ومن ثم التمكن من الانتقام..

لقد اهتم القرامطة بالمسائل الاجتماعية والاقتصادية اهتماماً كبيراً، ورأوا بأم أعينهم أكثر من مرة زيف الغطاء الديني للباطنية، وشفافيته، وتناقضاته، وملكوا الفرصة حتى يتخصلوا من هذا الغطاء، وذلك عن طريق العودة الى الجادة القويمة، فذلك كان سيفتح أمامهم مختلف الابواب في جميع البلدان، لكن على الرغم من كل هذا تمسكوا بالغطاء الواهي، وسخروا قواتهم في سبيل تدمير ما أجمعت الأمة على الايمان به والتمسك، فأهلكوا أنفسهم بأيديهم، فهذا كان وما يزال مصير كل من يتنكر للتراث ويعلن الحرب عليه.

وحين توفي أبو طاهر كان معظم إخوانه ما زالوا على قيد الحياة، بينهم سعيد، وكان من المقدر أن يعود سعيد الى تسلم منصب السيادة، لكن هذا لم يحدث..بل وقعت الادارة مشاركة بين الاخوة، ومع الايام برز من بينهم احمد، حتى بات المقرر انفراده بالسيادة، ولكن وجد بين القرامطة جماعة ارتأت تنصيب سابور بن أبي طاهر، وسلكت هذه الجماعة مسلك التآمر، وفي سنة 358هـ/969م ألقى القبض على سابور وجرى قتله، وبذلك انفرد احمد بالسيادة، وعلق ابن حوقل على هذا الحدث وبين آثاره على القرامطة حيث "تشتت كلمتهم وتغيرت أحوالهم، واستوحش بعضهم من بعض، وانقبضوا على الالتقاء بالجرعاء"(11).

ويبدو أن الذي حدث لم يكن مجرد صراع داخلي على السلطة بل للقضية أسبابها الخارجية، ففي السنة التي قتل بها سابور كان الفاطميون قد تمكنوا من الاستيلاء على مصر، ثم توجهت جيوشهم للاستيلاء على الشام، واذا كانت المشاعر الثورية تجمع فإن المصالح الدولية تفرق، ولست الآن بصدد الحديث عن الصراع الذين نشب بين قرامطة البحرين والخلافة الفاطمية، ولعله تكفي الاشارة أنه يستخلص من ابن حوقل أن سابور وحزبه كانوا من مؤيدي الخلافة الفاطمية، في حين كان أحمد وحزبه من المعادين للفاطميين، وهذا واضح في رسالة المعز لدين الله الفاطمي للحسن بن أحمد ـ المشهور بالاعظم.

ولقد كان لاستيلاء الفاطميين على مصر، وبناء مدينة القاهرة أبعد الآثار وأخطرها على دولة قرامطة الاحساء والبحرين، فقد تعارضت مصالح الدولتين، الفرصة التي استغلها سادة بغداد الجدد من الديلم، فضغطوا على الخليفة المطيع (334 ـ 363هـ/946 ـ 974م) للتقرب من القرامطة، كما أوعزوا الى الحمدانيين في الموصل، والى قادة قبائل الشام والعراق والجزيرة للمبادرة الى تقديم العون الى القرامطة في صراعهم مع الفاطميين.

وكان الفاطميون حين استولوا على مصر يريدون القضاء على الخلافة العباسية، ولم يكونوا يتوقعون عون القرامطة لأعدائهم، بل كانوا يعولون على قرامطة البحرين القيام بمهاجمة العراق، من الجنوب أثناء زحف القوات الفاطمية على الشام، ولابد أنه كان في خطط الفاطميين إثارة اسماعيلية خراسان وتحريضهم للزحف في الوقت عينه على العراق مذكراً بالوقت نفسه أن قبائل بادية الشام والجزيرة والعراق كانت شيعية، وكان الديلم شيعة ايضاً تراسل بعضهم مع الفاطميين.

وأحبط هذه الخطط الحفاظ على مصالح دولة القرامطة، لأن احتلال الفاطميين للشام قطع الاتاوة التي كان يدفعها اسم حكام الدولة الاخشيدية، ثم إن البويهيين آثروا التحكم بخليفة عباسي ضعيف على أن يدينوا بالطاعة لخليفة فاطمي قوي، متذكرين أنهم كانوا شيعة زيدية، وأن القبائل الجزرية والعراقية والشامية كانت شيعة امامية، وهكذا أخفقت خطط الفاطميين، وكادوا يفقدون مصر، فغالباً ما قهرت المصالح الدولية الوحدة العقائدية.

ومع قيام الصراع القرمطي الفاطمي كانت زعامة القرامطة قد آلت الى الحسن بن أحمد، الذي عرف بالأعصم لقصره، وقد دامت زعامته طيلة حقبة النزاع التي امتدت حتى ايام العزيز الفاطمي، فمع أيام العزيز تم التوصل الى اتفاق هدنة في سنة 366هـ/976م تعهدت الخلافة الفاطمية بموجبه بدفع اتاوة سنوية للقرامطة قدرتها المصادر بسبعين ألف دينار، واثر التوصل الى هذا الاتفاق توفي الأعصم، وتراجع القرامطة الى الاحساء وقد استمرت دولتهم بعد الأعصم ما يزيد على القرن، وفي سنة 469هـ/1077م في ايام السلطان السلجوفي ملكشاه أغار القائد التركماني أرتق على الاحساء، ورام الاستيلاء عليها، فأخفق بعد ما حاصرها حقبة طويلة من الزمن.




التعديل الأخير تم بواسطة مسلم ; 01-03-2015 الساعة 01:54 AM
رد مع اقتباس