المبحث الثالث- خطيئة آدم في القرآن الكريم و السنة المطهرة
وضح القرآن الكريم الصورة عندما تحدث عن خطيئة آدم في سور عدة، و في بعـض السور تفصيلٌ ما أجمل في الأخرى، قال الله تعالى:﴿ وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ * ﹴ فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ * فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾( البقرة: 34- 37 ).
ولقد ذكر الإمام الطبري رحمه اﷲ تعالى أقوالاﹰ حول الكلمات التي تلقاها آدم، من ذلك:
أـ ما رواه عن عبيد بن عمير أنه قال: قال آدم عليه السلام : يا رب، خطيئتي التي أخطأتها، أشـيء كتبتـه علي قبل أن تخلقني؟ ، أم شيء ابتدعتُهُ من قِبَلِ نفسي؟ قال: بلى، شيء كتبته عليـك قبـل أن أخلقك. قال: فكما كتبته علي فاغفره لي. قال: فهو قول اﷲ:"فتلقَّى آدم من ربه كلمات".(10) وروى قريباﹰ من ذلك عن مجاهد، والسدي ، وعبد الرحمن بن يزيد بن معاوية، وغيرهم.(11)
ب- ما رواه عن قتادة في قوله:"( فتلقى آدم من ربه كلمات )، قال : هو قوله :﴿ قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾"(12) ، وروي بمثـل ذلـك عـن أبـي العالية، ومجاهد ، و عبيد بن عمير، وغيرهم(13)، وروى ابن كثير عن الضحاك بنحوه(14).
وتلك الأقوال وإن كانت مختلفة الألفاظ، فإن معانيها متفقة في أن اﷲ جل ثناؤه لقَّـى آدم كلمات، فتلقَّاهن آدم من ربه فقبلهن وعمل بهن، وتاب إلى اﷲ تعالى بقيله إياهن وعملـه بهـن، معترفا بذنبه، متنصلا إلى ربه من خطيئته، نادما على ما سلف منه من خلاف أمـره، فتـاب اﷲ عليه بقبوله الكلمات التي تلقاهن منه، وندمه على سالف الذنب منه(15).
ولقد بين القرآن الكريم الكلمات التي تلقاها آدم وذلك في عرضه للقـصة فـي سـورة الأعراف، قال الله تعالى :﴿ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَٰذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ *فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَٰذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ *وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * ﹶفَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَاعَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ * قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ *قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ ﹴ﴾( الأعراف:19-24).
وفي سورة طه بين المولى- توبته على آدم -عليه السلام- ، قال تعالى:﴿ وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا *وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَىٰ *فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ *إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَىٰ *وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَىٰ *فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ *فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ *ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَىٰ *قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ ﴾( طه:115-123).
فالقصة واضحة المعالم لا لبس فيها مطلقاﹰ، فآدم -عليه السلام- أخطأ، و لكن سرعان ما اعتـرف بخطئه، فتاب وأناب إلى اﷲ ؛ فغفر المولى زلته، دون تعقيد أو ذكـر للحيـة، أو توريـث لخطيئته لأحد من ذريته، كما في نص التوراة السابق.
ولقد ذكرت السنة النبوية تلك المحاجة بين آدم وموسى عليهما الـسلام والتـي أزالـت اللبس فيما وقع فيه آدم ، حيث بينت أنها كانت بقدر اﷲ تعالى،وتم غفرانها له بمجرد أن تـاب منها، ولم يحملها أحد من بعده، فقد روى البخاري أن رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ﹶقالَ :(احتج آدم وموسى فقال موسى يا آدم أنت أبونا خَيَّبْتَنَا وأَخْرَجْتَنَا من الجنة فقال ﹶله آدم أنت موسى اصطفاك اللَّـه بكلامه وخط ﹶلك بيده أتلومني على َأَمرﹴ ﹶقدره اللَّه علي ﹶقبلَ َأن يخلقني بأربعين سنة؟ فقال النبي - صـَّلى اللَّه عليه وسلم - ﹶفحج آدم موسى ﹶفحج آدم موسى)(16) .
- و في رواية أخرى:( ﹶقالَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم : احتج آدم وموسى عليهما السلام عند ربهما ﹶفحـج آدم موسى ﹶقالَ موسى َأنت آدم الذي خلقك اللَّه بيده و نفخ فيك من روحه وأَسجد ﹶلك ملائكته و أسكنك في جنَّته ﹸثم َأهبطت النَّاس بخطيئتك إلى الأرض، فقال: آدم أنت موسى الَّـذي اصطفاك اللَّـه برسالته وبكلامه وأعطﹶاك الألواح فيها تبيان ﹸكلِّ ﹶشيء و قربك نجيا فبِكَمْ وجدتﹶ اللَّه كتب التَّوراةﹶﹶ قبلَ َأن أخلق ﹶقالَ موسى: بأربعين عاما ﹶقالَ آدم ﹶفهلْ وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى ﹶقـالَ: ﹶنعم ﹶقالَ َأ فتلومني على َأن عملتُ عملا كتبه اللَّه علي َأن أعمله ﹶقبلَ َأن يخلقني بأربعين سنة ﹶقالَ رسولُ اللَّه - صلى اللَّه عليه وسَّلم - ﹶفحج آدم موسى)(17).
والقرآن الكريم فصل في ذلك وبين أن خطيئة آدم - عليه السلام- لا علاقة لأحد مـن ذريتـه بها، قال الله تعالى:( كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ ﴾( المدثر :38) ، وقـال تعالى:﴿مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا ﴾( الإسراء :15).
والإنسان يولد على الفطرة و التوحيد، وليس في حمأة الخطيئة كما زعم النصارى، فقـد روي الإمام البخاري َأن َأبا هريرةﹶ -رضي الله عنه- ﹶقالَ: ﹶقالَ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم : ( ما من موﹸلود إَّلا يُولَدُ على ﹾالفطﹾرة فأبواه يهودانه َأَو ينصرانه َأَو يمجسانه ﹶكما ﹸتُنْتِجُ البهيمةُ بهيمةﹰ جمعاء هلْ ﹸتحسون فيها من جدعاء ﹸثم يقول فطﹾرةﹶ اللَّه الَّتي ﹶفطﹶر النَّاس عليها ﹶلا ﹶتبديلَ لخلق اللَّه ﹶذلِك الدين القيّمﹾ)(18) ،
والإنسان المسلم ليس بحاجة إلى من يتوسط بينه وبين ربه، قال الله تعالى:﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾( سـورة البقرة:186).
بل لا يملك النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يكفر خطيئة أحد من الناس، و لا أن يشفع إلا بإذن اﷲ تعالى،
قال الله تعالى:﴿ مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِندَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾( سورة البقرة: 255) ، وهذا فيما هـو دون الـشرك الذي لا تنفع فيه شفاعة الشافعين، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَٰلِكَ لِمَن يَشَاءُ وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَىٰ إِثْمًا عَظِيمًا﴾(النساء: 48)، وعليه فلا ينفع أو يشفع في الإشراك مع اﷲ تعالى عقيدة الفداءِ أو الخلاص، قالالله تعالى لأحب خلقه :﴿ لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴾( آل عمران: 128) .
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة-رضي الله عنه- قال:( ﹶقام رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم- حين أنزل اللَّـه و أنذر عشيرتك الأقربين ﹶقالَ يا معشر ﹸقريشﹴ َأَو ﹶكلمةﹰ ﹶنحوها اشتروا أنفسكم ﹶلا أغني عنكم من اللَّه ﹶشيئا يا بني عبد مناف ﹶلا أغني عنكم من اللَّه ﹶشيئا يا عباس بن عبد المطلب ﹶلا أغني عنك من اللَّه ﹶشيئا ويا صفيةﹸ عمة رسولِ اللَّه ﹶلا أغني عنك من اللَّه ﹶشيئا ويا ﹶفاطمةﹸ بنت محمد سـليني مـاشئْت من مالي ﹶلا أغني عنك من اللَّه ﹶشيئا)(19) .
وإن من أصول ديننا التي تؤكد على ألا ذنب للذرية بخطيئة الآبـاء أو غيـرهم، قولـه تعالى :﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ إِنَّمَا تُنذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَن تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾(فاطر:18).
وقال تعالى:﴿ مَّنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾( فصلت: 46).
هذه هي العدالة الإلهية التي انحرف عنها النصارى؛ فساروا وراء رهبانهم وقـساوستهم الذين ابتدعوا واخترعوا لهم فكرة وعقيدة الفداء، التي ﹸتريحهم من التكاليف، وتعينهم على اقتراف الآثام والموبقات ؛ فالمسيح صلب بزعمهم ؛ ليفديهم ويكفر ذنوبهم، وعليه فليغرقوا في مـستنقع الخطايا والآثام؛ فمصيرها الغفران بمجرد الإيمان بالمسيح مصلوباﹰ.
هذه العقيدة المتهافتة عند النصارى من أصول دينهم ودعائم عقيـدتهم، التـي لا يقبـل الإيمان إلا بها، ذلك يستدعي الوقوف على قصة الصلب ومدى صدق تلك القصة؛ لأن صدق تلك القصة أو عدمها يترتب عليه إثبات أو نفي لخطيئة آدم عليه السلام و توريثه الخطيئة لذريته من بعده، وكذلك إبطال لفكرة الفداء.