01-26-2016, 02:15 PM
|
عضو
|
|
تاريخ التسجيل: 02-12-2014
الدولة: الجزائر
المشاركات: 1,262
معدل تقييم المستوى: 12
|
|
مدارس النساء: هل أسهمت المرأة فى الحضارة الإسلامية؟
محمد شعبان ايوب
يقول المستشرق والطبيب الفرنسي جوستاف لوبون:
«إن الأوربيين أخذوا عن العرب مبادئ الفروسية وما اقتضته من احترام المرأة، والإسلام – إذن – لا النصرانية، هو الذي رفع المرأة من الدرك الأسفل الذي كانت فيه، وذلك خلافًا للاعتقاد الشائع، وإذا نظرت إلى سنيورات نصارى الدور الأول من القرون الوسطى رأيتهم لم يحملوا شيئًا من الحرمة للنساء، وإذا تصفحّت كُتب تاريخ ذلك الزمن وجدتَ ما يُزيلُ كل شكّ في هذا الأمر، وعلمتَ أن رجال عصر الإقطاع كانوا غلاظًا نحو النساء قبل أن يتعلم النصارى من العرب أمر معاملتهن بالحسنى، ومن ذلك ما جاء في تاريخ غاران «لُولُو هيران» عن معاملة النساء في عصر شارلمان، وعن معاملة شارلمان نفسه لهنّ كما يأتي: انقضّ القيصر شارلمان على أخته في أثناء جدال وأخذ بشعرها وضربها ضربًا مبرّحًا، كسر بقفّازه الحديدي ثلاثًا من أسنانها. فلو حدث مثل هذا الجدل مع سائق عربة في الوقت الحاضر لبدا هذا السائقُ أرقّ منه لا ريب. ومن الأدلة على أهمية النساء أيام نضارة حضارة العرب، كثرة من اشتهر منهنّ بمعارفهنّ العلمية والأدبية؛ فقد ذاع صيت عدد غير قليل منهن في العصر العباسي في المشرق، والعصر الأموي في إسبانيا»[1].
في المقابل نجد اختلافًا جوهريًا في النظرة إلى المرأة في العصر الإسلامي الوسيط، لقد ذكر لنا المؤرخ الكبير تقي الدين المقريزي (ت845هـ/1441م) قصة لطيفة ترسم لنا ملمحًا عن علاقته بوالدته، وكيف علّمته وربّته من خلال المواقف والحوادث والعبر والعظات المستقاة منها، حيث قال أثناء معاقبة السلطان جقمق (ت857هـ/1453م) لأولاد الشيخ المتوفى زين الدين أبي هريرة عبد الرحمن بن النقاش – وكان هذا الشيخ قد استولى على أرض استأجرها من أوقاف الجامع الطولوني، وجعلها وقفًا لأولاده من بعده دون وجه حق، غير أنه كان قوي الحجة؛ إذ تحصّل على فتوى من مجموعة من العلماء بجواز فعله، لكن السلطان أبا سعيد جقمق عَلِم صُنع الرجل، واستطاع أن يستفتي بعض القضاة الذين رأوا أن مدة إجارتها انتهت، ومن ثم لهم الحق في هدمها؛ لأنها من جملة الأملاك الموقوفة والعامة، والتي يحق للقاضي والحاكم الاستيلاء عليها للمصلحة العامة، وبالفعل حدث هذا، وتشرد أبناء الرجل وأحفاده، وكان ابن النقاش هذا قد جعل السلطان الناصر حسن يستصدرُ أمرًا بهدم دار رجل يُسمى قطب الدين بن الهرماس؛ لأنه بناها زيادة مستوليًا على قطعة أرض من الجامع الحاكمي بالقاهرة – فقال المقريزي معلقًا: {ولقد سمعتُ أمي أسماء بنت محمد بن عبد الرحمن بن الصايغ الحنفي، وكان ابن الصايغ من الأفراد في أمور الدين والدنيا يقول عن اللّه تعالى أنه قال: يا داود أنا الرب الودود، أعاقب الأبناء بما تفعله الجدود، فلقد عوقب في هذه الحادثة أبو أمامة أبو اليسر، أبناء أبي هريرة بما فعله جدهما أبو أمامة شمس الدين «وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا[2]»[3].
مدارس شيّدتها النساء
هذه الحادثة تُبين لنا أن الأم كان لها دور كبير في هذا العصر، تربية تقوم على الثقافة الراسخة، والعلم الأصيل، وأول تلك المسارات التي ساهمت فيها المرأة في سبيل النهضة الحضارية والعلمية، كان في مضمار إنشاء وبناء المدارس والجامعات على نفقاتهن. وقد زخرت مصادر التاريخ الإسلامي بكمّ هائل من المعلومات حول هذا الأمر، ففي بغداد وجدنا المدرسة الشومانية وكانت مدرسة متخصصة لتعليم الفقه الشافعي، بَنَتْها خاتون بنت ظهير الدين شومان([4])، وفي القاهرة وجدنا مدرسة جملية يذكرها المقريزي في «خِططه» وهي مدرسة أم السلطان شعبان، قال عنها:
«هذه المدرسة خارج باب زويلة بالقرب من قلعة الجبل، يُعرف خطها الآن بالتبانة، وموضعها كان قديمًا مقبرة لأهل القاهرة، أنشأتها الست الجليلة الكبرى بركة أمّ السلطان الملك الأشرف شعبان بن حسين في سنة إحدى وسبعين وسبعمائة، وعملت بها درساً للشافعية، ودرسًا للحنفيهّ، وعلى بابها حوض مياه للسبيل، وهي من المدارس الجليلة»[5].
ومثلها المدرسة الحجازية التي أثنى عليها المقريزي كثيرًا، وهذه المدرسة بنتها السيدة خَوَند تَتر الحجازية، ابنة السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، زوجة الأمير بكتَمُر الحجازيّ، وبه عُرفت، قال المقريزي عن أسس قيام هذه المدرسة، ومنهج التدريس والتربية فيها:
«جَعَلَت بهذه المدرسة درساً للفقهاء الشافعية، قررت فيه شيخنا شيخ الإسلام سراج الدين عمر بن رسلان البلقينيّ، ودرسًا للفقهاء المالكية، وجعلت بها منبرًا يخطب عليه يوم الجمعة، ورتبت لها إمامًا راتبًا يقيم بالناس الصلوات الخمس، وجعلت بها خزانة كتب (مكتبة)»[6].
وأنشأت مكتبًا وسبيلاً للماء بجوار هذه المدرسة، وتأتي روعة هذا المكتب، أي المدرسة الابتدائية، من الوصف الرائق الذي ينقله المقريزي في خططه؛ إذ تتضح إنسانية هذه الحضارة، ورفقها بالأولاد الصغار لا سيّما الأيتام منهم، من خلال التربية والإنفاق عليهم في آن واحد، قال المقريزي:
«وجَعَلَت بجوار المدرسة مكتباً للسبيل فيه عدة من أيتام المسلمين، ولهم مُؤدّب يعلمهم القرآن الكريم، ويُجري عليهم في كل يوم لكل منهم من الخبز النقي خمسة أرغفة، ومبلغًا من الفلوس، ويقام لكل منهم بكسوتي الشتاء والصيف، وجعلت على هذه الجهات عدة أوقاف جليلة يُصرف منها لأرباب الوظائف المعاليم السنية، وكان يُفرّق فيهم كل سنة أيام عيد الفطر الكعك والخشكنانك([7])، وفي عيد الأضحى اللحم، وفي شهر رمضان يطبخ لهم الطعام»[8].
وقد أُعجب المقريزي أيضًا بنظامها الإداري، والحراسة المشددة التي كانت لها، بقوله:
«وهي من المدارس الكبسة، وعهدي بها محترمة إلى الغاية يجلس عدَّة من الطواشية، ولا يمكنون أحدًا من عبور القبة التي فيها قبر خوند الحجازية إلاّ القراء فقط وقت قراءتهم خاصة. واتفق مرَّة أن شخصا من القرّاء كان في نفسه شيء من أحد رفقائه، فأتى إلى كبير الطواشية بهذه القبة وقال له: إن فلاناً دخل اليوم إلى القبة وهو بغير سراويل، فغضب الطواشي من هذا القول وعدّ ذلك ذنبًا عظيمًا وفعلاً محذورًا، وطلب ذلك المقرئ وأمر به فضُرِبَ بين يديه وصار يقول له: تدخل على خوند بغير سراويل، وهمّ بإخراجه من وظيفة القراءة لولا ما حصل من شفاعة الناس فيه، وكان لا يلي نظر هذه المدرسة إلاّ الأمراء الأكابر، ثم صار يليها الخدّام وغيرهم، وكان إنشاؤها في سنة إحدى وستين وسبعمائة»[9].
ومثلها مدرسة فاطمة ابنة قانباي العمري الناصري فرج (ت892هـ)، كانت إحدى الأميرات في العصر المملوكي الجركسي، قال السخاوي عن مدرستها:
«وعَمَّرت بالقُرب من درب الكافوري وموقف المكارية داخل باب القنطرة مدرسة لطيفة تقام فيها الجمعة شرعت فيها في أيام الظاهر جقمق؛ ولكنها لم تكمل إلا بعد وعملت فيها درسًا للحنفية وقراءة حديث وتفسير وغير ذلك ووقفت بها كتبًا»[10].
وفي القدس بَنَت السيدة مصر خاتون المدرسة الغادِرية بداخل المسجد الأقصى، وواقفها (أي بانيها والمنفق عليها) الأمير ناصر الدين محمد بن دُلغادر، وكان ذلك عام 836هـ[11]. وفي اليمن اهتمت نساء الأمراء والملوك بتشييد المدارس على نفقتهن الخاصة أيضًا، من تلك الفضليات نجد السيدة الآدر الكريمة (ت721هـ)، قال الزركلي:
«من مآثرها المدرسة الصلاحية في زَبيد، ومدرسة في قرية المسلب من وادي زبيد، ومسجد في قرية التربية، ومدرسة في قرية السلامة، ومسجد في تعز. ووقفت لكل ذلك أوقافًا كافية»[12].
ولم يكن دورهن البناء والتشييد والتعمير وفقط، بل ظهرت منهن العالمات النجيبات اللاتي ذاع صيتهن، مثل «أُمامة بنت عبد السلام بن القاضي عبد الخالق بن سعيد البعلبكية؛ سمعت من جدتها ست الأهل بنت علوان، وحدَّثت وماتت سنة 744هـ»[13]، ونلحظ أنها أخذت عن جدتها، وكانت من جملة عالمات الحديث النبوي الشريف.
وكان طلبة العلم يسعون بجد ونشاط للأخذ والتلمذة على تلك العالمات الحافظات، بل كانوا يذكرونهن في مشيخاتهم وفهرستاتهم ومعاجمهم التي خلدت سِيرهن، وهي مؤلفات كان الغرض منها تقييد رحلة طلب العلم، وذكر الشيوخ والشيخات، وأنواع العلوم التي أخذها طالب العلم؛ فمنهن العالمات أمة الرحمن بنت محمد بن شيبان البعلبكية، ذكرها أبو حامد بن ظهيرة بعد الستين[14] وحدث عنها في معجمه[15]. وفي مقالنا القادم نستكمل الحديث عن دور المرأة ومساهمتها في نهضة الحضارة الإسلامية؛ إنشاءً ومشاركةً وتثقيفًا.
المراجع
1-جوستاف لوبون: حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر ص403، 404.
2-الكهف: 49.
3-المقريزي: السلوك لمعرفة دول الملوك 7/ 396.
4-عبد القادر بدران: منادمة الأطلال ومسامرة الخيال ص109.
5-المقريزي: المواعظ والاعتبار 4/ 258.
6-المقريزي: المواعظ والاعتبار 4/ 230.
7-نوع من الحلوى والفطائر.
8-المقريزي: المواعظ والاعتبار 4/ 231.
9-المقريزي: المواعظ والاعتبار 4/ 231.
10-السخاوي: الضوء اللامع 12/ 98.
11-العليمي: الأنس الجليل 2/ 40.
12-الزركلي: الأعلام 1/ 25.
13-ابن حجر: الدرر الكامنة في أعيان المائة الثامنة 1/ 491.
14-أي بعد سنة 760هـ.
15-ابن حجر: الدرر الكامنة 1/ 491.
المصدر
مدارس النساء: هل أسهمت المرأة فى الحضارة الإسلامية؟ – إضاءات
|