اعلم أن الألف واللام اللتين للتعريف وكذلك قولك:الرجل والغلام والثوب والفرس وما أشبه ذلك، للعلماء فيها مذهبان:
أما الخليل فيذهب إلى أن الألف واللام كلمة واحدة مبنية من حرفين بمنزلة من ولم وإن وما أشبه ذلك، فيجعل الألف أصلية من بناء الكلمة بمنزلة الألف في إنوأن واستدل على ذلك بقول الشاعر:
دع ذا وعجل ذا وألحقنا *** بذل بالشحم إنا قد مللناه بجل
قال: أراد أن يقول ألحقنا بالشحم فلم تستقم له القافية فأتى باللام ثم ذكر الألف مع اللام في ابتداء البيت الثاني فقال الشحم فدل ذلك على أن الألف من بناء الكلمة
قال: وهو بمنزلة قول الرجل إذا تذكر شيئا قدي ثم يقول قد كان كذا وكذا فيرد قد عند ذكر ما نسيه فهذا مذهب الخليل واحتجاجه؛
وأما غيره من علماء البصريين والكوفيين فيذهبون إلى أن اللام للتعريف وحدها وأن الألف زيدت قبلها ليوصل إلى النطق باللام لما سكنت لأن الابتداء بالساكن ممتنع في الفطرة كما أن الوقف على متحرك ممتنع،
والقول ما ذهب إليه العلماء ومذهب الخليل فيما ذكره ضعيف والدليل على صحة قول الجماعة وفساد قول الخليل هو أن اللام قد وجدت في غير هذا الموضع وحدها تدل على المعاني نحو لام الملك، ولام القسم، ولام الاستحقاق، ولام الأمر وسائر اللامات التي عددناها في أول الكتاب،
ولم توجد ألف الوصل في شيء من كلام العرب تدل على معنى ولا وجدت ألف الوصل في شيء من كلام العرب تكون من أصل الكلمة في اسم ولا فعل ولا حرف فيكون هذا ملحقا به،
وكيف تكون ألف الوصل من أصل الكلمة، وقد سميت وصلا؟
ومع ذلك، فإن الخليل نفسه قال:إنما سميت ألف الوصل بهذا الاسم لأنها وصلة للسان إلى النطق بالساكن،
وقال غيره إنما سميت ألف الوصل لاتصال ما قبلها بما بعدها في وصل الكلام وسقوطها منه فقد بان لك مذهب الخليل واحتجاجه ومذهب العلماء واحتجاجهم،
ونقول في هذا الفصل ما قاله المازني قال: إذا قال العالم المتقدم قولا فسبيل من بعده أن يحكيه وإن رأى فيه خللا أبان عنه ودل على الصواب ويكون الناظر فيذلك مخيرا في اعتقاد أي المذهبين بان له فيه الحق،
فإن قال قائل: فلم وجب سكون لام المعرفة عندكم، وقد زعمتم أنها حرف دال على معنى بنفسه؟
قيل له أما دلالته على المعنى بنفسه مفردا من غير الألف التي قبلها فليست زعما بلهي حقيقة،
توجد ضرورة لأنا إذا قلنا: قام القوم وخرج الغلام وما أشبه ذلك، في جميع الكلام سقطت الألف من اللفظ لوصول الكلام ودلت اللام على التعريف ولو كانت الألف من بناء الكلمة لأخل معناها بسقوطها؛
وأما سكونها فإن ما وجب ذلك لأن اللامات التي تقع أوائل الكلم غيرها ذهبت بالحركات فذهبت لام الابتداء،
ولام المضمر بالفتح، ولام الأمر،
ولام كي بالكسر ولم يبق غير الضم أو السكون فاستثقل في لام التعريف الضم لأنها كثيرة الدور في كلام العرب داخلة على كل اسم منكور يراد تعريفه وليس كذلك سائر اللامات لأن لكل واحد منها موقعا معروفا ومع ذلك.
فإنها قد تدخل على مثل إبل و إطل فلو كانت مضمومة لثقل عليهم الخروج من ضم إلى كسرتين،
وقد تدخل على مثل حلم وعنق فكان يثقل عليهم الجمع بين ثلاث ضمات لو كانت مضمومة ولو كانت مكسورة لثقل عليهم الخروج من كسر إلى ضمتين ألا ترى أنه ليس في كلامهم
مثل فعل بكسر الفاء وضم العين استثقالا للخروج من الكسر إلى الضم ولو كانت مفتوحة أشبهت لام التوكيد والابتداء والقسم فلما لم يكن تحريكها بإحدى هذه الحركات لما ذكرنا ألزمت السكون وأدخلت عليها ألف الوصل كما فعل ذلك في الأسماء والأفعال إذا سكنت أوائلها وهذا بين واضح.
واعلم أن هذه الألف واللام التي للتعريف قد تدخل في الكلام على ضروب:
فمنها أن تعرف الاسم على معنى العهد
كقولك: جاءني الرجل، فإن ما تخاطب بهذا من بينك وبينه عهد برجل تشير إليه لولا ذلك لمتقل جاءني الرجل ولكنت تقول جاءني رجل،
وكذلك قولك: مر بي الغلام وركبت الفرس واشتريت الثوب وما أشبه ذلك إنما صار معرفة لإشارتك بهذه الألف واللام إلى العهد الذي بينك وبين مخاطبك فيما دخلت عليه هذه الألف واللام،
وقد تدخل لتعريف الجنس وذلك أن تدخل على اسم واحد من جنس فتكون تعريف الجميعه لا لواحد منه بعينه وذلك قولهم قد كثر الدرهم والدينار في أيدي الناس
لا يراد به تعريف درهم بعينه ولا دينار بعينه وإنما يراد به الجنس،
ومن ذلك قولك المؤمن أفضل من الكافر لست تريد مؤمنا بعينه وإنما تريد تفضيل جنس المؤمنين على الكافرين،
ومن ذلك قولهم الرجل أفضل من المرأة ومنه قولهم قد أيسر فلان فصار يشتري الفرس العتيق والغلام الفاره والخادمةالحسناء ولا يراد به الواحد من الجنس وإنما يراد ما كان من هذا الجنس،
ومن ذلك قولهم هذا الصياد شقيا وهذا الأسد مخوفا لا يراد أسد بعينه ولا صائد بعينه وإنما يراد ما كان من هذا الجنس،
وقد تدخل لضرب ثالث من التعريف وذلك أن تدخل عل نعت مخصوص مقرون بمنعوت ثم لا يطرد إدخالها على من كان بتلك الصفة مطلقا إلا معلقا بما يخرجه عن العموم والأشكال
وذلك قولهم المؤمن والكافر والفاسق والمنافق والفاجر وما أشبه ذلك من الصفات الشرعية
ألا ترى أن اشتقاق المؤمن من التصديق ولا تقع هذه الصفة معرفة بالألف واللام إلا على المؤمنين بالله عز وجل والنبي وشرائعه ولا تقول لمن صدق بخبر من الأخبار أو بشيء من الأشياء وهو مخالف لهذه الشريعة المؤمن مطلقا حتى تقول مؤمن بكذا وكذا،
وكذلك الكافر أصله من الستر كل من ستر شيئا فقد كفره ثم صار صفة تقع معرفة بالألف والام على من خالف الإسلام فلا تقول لمن ستر شيئا بعينه قد جاء الكافر أو رأيت الكافر حتى تقرنه بما يخرجه من الأشكال فتقول قد جاءنا الكافر للثوب وما أشبه ذلك فأما منكورا أو موصولا بما يبينه فجائز استعماله ألا ترى أن الله عز وجل،
لما ذكره معرفا بالألف واللام وصله بصفة توضحه وتبينه،
فقال عز وجل: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَالْكُفَّارَ نَبَاتُهُ} [سورة الحديد: 20]؛
يعني الزراع فبان ذلك بذكر الزرع والنبات ولذلك تعلق بهذه الآية بعض أغبياء الملحدين ممن لا علم له بالعربية فقال وكيف يعجب الزرع الكفار دون المؤمنين وذهب عليه أن المعنى بهم هم الزراع لأنهم به عند استحكامه وجودته أشد فرحا من غيرهم لطول معاناتهم له وكدهم فيه وتأميلهم إياه،
وكذلك الفاسق أصله عند جميع أهل العربية من قولهم فسقت الرطبة من قشرها إذا خرجت منه ولا تطلق هذه الصفة معرفة بالألف واللام على كل خارج من غشاء وغطاء وستر كان فيه
وكان قطر بوحده يذهب إلى أن اشتقاق الفاسق من الاتساع وذكر أن العرب تقول تفسق الرجل في أمره إذا اتسع فيه
قال: فكأن الفاسق قد وسع على نفسه من مذاهب الدين ما يحرج فيه غيره فيضيقه على نفسه توقيا للمآثم ولا يجوز على هذا التأويل أيضا إطلاقه معرفا بالألف واللام على كل من توسع في حال من الأحوال،
ومن هذا النوع الطبيب والفقيه والشاعر لأنها وإن كانت صفات مشتقات فلا تطلق معرفة بالألف واللام إلا مخصوصة لمن وضعت له اتفاقا،
وقد تدخل الألف واللام للتعريف في ضرب رابع وهو أن تدخل على صفات شهر بها قوم حتى صارت تنوب عن أسمائهم ثم غلبت عليهم فعرفوا بها دون أسمائهم
كقوله: م الفضل والحارث والعباس والقاسم وما أشبه ذلك هكذا كانت في الأصل نعوتا غلبت فعرف بها أصحابها ثم نقلت فسمي بها بعد ذلك
قال سيبويه فمن قال: حارث وعباس وفضل فهن عنده بمنزلة زيد وجعفر ومحمد وبكر أسماء أعلام لا يجوز إدخال الألف واللام عليها ومن قال: الحارث والعباس والفضل،
فإن ما نقلها من النعوت المشهورة فسمى بها، فإن نادى مناد الحارث والعباس والفضل أسقط منها الألف واللام ورجع إلى اللغة الأخرى
فقال: يا حارث ويا عباس وأهل الكوفة يسمون الألف واللام في الحارث والعباس والفضل تبجيلا لأنها الألف واللام الداخلة للتعريف والتبجيل،
وقد تدخل الألف واللام للتعريف على ضرب خامس وذلك أن تدخلا على نعت مخصوص وقع لواحد بعينه مشتقا ثم لم يستعمل في جنسه ولا فيماشاركه في تلك الصفة ولا نقل إلى غيره فسمي به وذلك نحو
قولهم: الدبرانللنجم إنما سمي بذلك لأنه دبر أي صار في دبر الكوكب التالي له، وكذلك السماك للنجم المعروف وإنما سمي بذلك لسموكه أي ارتفاعه،
وكذلك قال سيبويه: ولا يجوز ان يقال لغيره من الأشياء المرتفعة السماك كائنا ماكان، وكذلك قولهم ابن الصعق إنما هي صفة لرجل بعينه أصابه ذلك ثم لم تنقل ولم يسم بها كما فعل بالحارث والعباس والفضل فسمي بها فهذا الفرق بين ماذكرناه من هذا الباب وبين الحارث والعباس والفرق بينه وبين الفاسق وما ذكرمعهما أن ذلك يطرد منكورا في جنسه وهذا لا يطرد ومن قولهم في هذا الباب الثريا للكواكب المجتمعة المعروفة بعينها وإنما هي تصغير ثروى وهي فعلى من الثروة وهي الكثرة ولا يطلق هذا اللفظ مصغرا معرفا بالألف واللام لما كثرمن الأشياء غيرها،
ومن ذلك قول العرب النجم إذا ذكروه هكذا معرفا بالألف واللام غير متصل بشيء، فإن ما يريدون به الثريا بعينها فيقولون غاب النجم وطلع النجم هكذا يقول أكثر أهل اللغة، وقد استعمل النجم معرفا لغير الثريا،
وقد قال الله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى} [سورة النجم: 1]؛
وأراه والله أعلم إشارة إلى ما هوى من النجوم إلى الغروب أيها كانت ويجوز أن يكون إشارة إلى ما هوى من الكواكب التي ترجم بها الشياطين،
وقد دخلت الألف واللام للتعريف على ضرب سادس وذلك دخولها على بعض الأسماء ثابتة غير منفصلة ولم تسمع قط معراة منها كدخولها على التي والذي واللذين واللتين والذين واللاتي واللائي وما أشبه ذلك،
فإن إجماع النحويين كلهم على أن الألف واللام في أوائل هذه الأسماء للتعريف ولم تعر قط منها
فسيبويه يقول: أصل الذي لذ مثل عم وشج ثم دخلت عليه الألف واللام للتعريف
والفراء يقول أصل الذي ذا وهو إشارة إلى ما بحضرتك ثم نقل من الحضرة إلى الغيبة ودخلت عليه الألف واللام للتعريف وحطت ألفها إلى الياء ليفرق بين الإشارة إلى الحاضر والغائب،
وكذلك قولنا الله عز وجل إنما أصله إله ثم دخلت عليه الألف واللام للتعريف وحذفت الهمزة،
وقال سيبويه أصله لاه ثم دخلت عليه الألف واللام للتعريف ومن نادر ما دخلت عليه الألف واللام للتعريف قولهم الآن في الإشارة إلى الوقت الحاضر ونحن نذكره وعلته في الباب الذي يلي هذا الباب إن شاء الله.