قرئ على أبا الوليد الباجي وهو ﺑ «دانية»(١٢٦) ـ حديث المقاضاة في صلح الحديبية الذي أخرجه البخاري من حديث البراء بن عازب رضي
الله عنه قال:
«لما اعتمر النبي صلَّى
الله عليه وسلَّم في ذي القعدة، فأبى أهل مكة أن يَدَعوه يدخلُ مكةَ حتى قاضاهم على أن يُقيم بها ثلاثة أيام، فلما كتبوا الكتابَ، كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمَّدٌ
رسول الله، قالوا: لا نقرُّ لك بهذا، لو نعلمُ أنكَ رسولُ
الله ما مَنَعناك شيئًا، ولكن أنتَ محمَّدُ بن عبد الله، فقال: (
أنا رسولُ الله، وأنا محمَّد بن عبد الله)، ثمَّ قال لعليٍّ: (
امْحُ رَسُولَ اللهِ)، قال عليٌّ: «لا والله لا أمحوك أبدًا»، فأخذ رسولُ
الله صلَّى
الله عليه وسلَّم الكتاب ـ وليس يُحسِنُ يكتب ـ فكتب: هذا ما قاضى عليه محمَّدُ بن عبد الله...»(١٢٧).
وكان أبو الوليد الباجي يقول بظاهر لفظ الحديث بأنَّ النبي صلَّى
الله عليه وسلَّم كتب بيده: «
هذا ما قاضى عليه محمَّد بن عبد الله...»، الأمر الذي أثار استياء علماء وفقهاء مدينة «دانية» وعلى رأسهم أبو بكر بن الصائغ(١٢٨)، فأنكروا إجازته الكتابة على النبي الأمي، وكفَّروه بتكذيب القرآن الكريم، فهوَّلوا أمره، وأخذت هذه المسألة طابع الفتنة، وقبَّحوا عند العامة ما أتى به، ورمَوْهُ بإرادته التميز عن غيره قصد الإكرام والعطاء تملُّقًا للولاة والأمراء، بل ذهبوا إلى أبعد من ذلك حيث أجازوا لأنفسهم إطلاق اللعنة عليه والتَّبرُؤ منه كما يظهر ذلك جليًّا في أشعارهم التي تناولها بعض خطبائهم في الجُمع وفوق المنابر، تشنيعًا به، حيث يقول عبد
الله بن هند الشاعر:
بَرِئْتُ مِمَّنْ شَرَى دُنْيَا بِآخِرَةٍ * وقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ قَدْ كَتَبَا(١٢٩)
وإثر ذلك قام الناس بشكايته إلى أمير دانية، حيث جَمَعَ هذا الأخير في مجلسه الخصم المخالف المشكَّل من فقهاء إمارته بأبي الوليد الباجي لإقامة مناظرة علمية حول هذا الموضوع ليتبيَّن الأمر ويستظهر الحقَّ ويطلع على أدلة كلِّ فريق فاحتجوا عليه بقوله تعالى:
﴿
وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ﴾ [العنكبوت: ٤٨]،
على
أنَّ النبي صلَّى
الله عليه وسلَّم كان أُمِّيًّا لا يكتب ولا يقرأ ولا يحسب(١٣٠)، إذ لو كان ممَّن يقرأ كتابًا، ويخطُّ حروفًا لارتاب المبطلون من أهل الكتاب لأن في كتبهم أنه أُمِّيٌّ لا يكتب ولا يقرأ، كما احتجُّوا عليه بما رواه عبد
الله بن عمر
أنَّ النبي صلَّى
الله عليه وسلَّم قال: (
إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ)(١٣١)، ووجهه
أنَّ المراد أهل الإسلام الذين بحضرته عند تلك المقابلة بما فيهم النبي صلَّى
الله عليه وسلَّم(١٣٢).
وعليه، فإنَّ أي قول يعارض صريح الآية والحديث يجب تأويل ظاهره، والمتمسِّك بظاهر النصوص في الرواية معرَّض للزندقة والتكفير.
واستظهر أبو الوليد الباجي للأمير بقوله: لا منافاة ولاتعارض بين ما ذكره القرآن الكريم وما قرَّرته من إجازة كتابة النبي الأُمِّيِّ، انطلاقًا من مفهوم الآية السابقة؛ ذلك لأنَّ
الله تعالى نفى عنه التلاوة والكتابة بما قبل نزول القرآن الكريم وتقيَّد النفي بذلك، وأمَّا بعد تحقُّقِ أُمِّيَّته، وتقرُّرِ معجزته، وأمن ارتياب أهل الكتاب، فليس فيه ما يحول دون معرفته الكتابة من غير تعليم أو معلِّم، فتصير عند ذلك معجزة ثانية(١٣٣)، فأفحمهم بما كان يتمتَّع به من معرفة بأحكام الكتاب والسُّنَّة، وإنزال الأصول والأدلة منازلها.
وللوقوف على
أنَّ الأخذ بظاهر الحديث غير قادح في أمِّيَّة النبي صلَّى
الله عليه وسلَّم، بل هو زيادة في معجزاته، استحسن أمير «دانية» إرسال هذه المسألة إلى جماعة من علماء الأمصار ليطلع على رأيهم ويتعرَّف على المزيد فيها، وذلك تلبية لرغبة أبي الوليد الباجي لاستظهار صدقه وصحة قوله، وجاءت موافقات العلماء لرأي أبي الوليد الباجي وتصويباتهم لنظره وتأويله، كما كانت أجوبتهم تحمل في طياتها ثناء عليه وإقرارًا بفضله وعلمه، فضلًا عن تقريع من لم يَعِ ما ذهب إليه، وتشنيعٍ لخصمه من معاصريه.
ومن نماذج هذه الموافقات والتصويبات ما يأتي:
* ما جاء عن الحسن بن علي التميمي المصري:
«وقفت على ما كتبه الفقيه الأجلُّ شيخنا وكبيرنا الذي نفزع إليه في المشكلات، ونعتمد عليه فيما دهمنا من أمور الناس، ومعرفة توحيد خالقنا وصفاته التي بان بها عن جميع المخلوقات، وأدام
الله للمسلمين توفيقه وتسديده، وما منَّ به عليهم منه من البصيرة والهداية من خطأ المخطئين، وعمى العامين، فلو نهضوا نحو الفقيه القاضي ليتعلموا منه أوائل المفترضات ومعرفة خالقهم، وما خص به جميع أهل السنة والإيمان لكان بهم أحرى»(١٣٤).
* وقال جعفر بن عبد الجبار:
«وما يستبدع ذلك من مثله لما وهبه
الله من الفهم، وكيف لا يكون كذلك، وقد ارتحل إلى العراق، فقرأ على شيوخ أجلَّة من أئمة السنة»(١٣٥).
* وقال فيه عبد
الله بن حسين البصري:
«والفقيه القاضي قد انتشرت إمامته، واشتهرت عدالته، فلو سأل من حاول الرد والتضليل للفقيه القاضي من قدم من شرق وغرب لشهد الكل بإمامته وحفظه للحديث، ومعرفته للصحيح منه والسقيم، وسائر علومه، وأصول الدين وفروعه»(١٣٦).
* وأجاب أبو الفضل جعفر بن نصر البغداديُّ قائلًا:
«ولا يحل لأحد أن يعنِّفه فيما أتى به، إذ هو إمام في المشرق والمغرب لا سيما بالعراق، وإنَّ أكثر البلاد لمُفْتَقِرَة لعلمه بالصحيح من الحديث والسقيم، فلو نهض كلُّ من ردَّ عليه ليتعلموا منه أوائل المفترضات لكان بهم أحرى، ويزيلوا عن أنفسهم الحسد والبغي، وإنما يريدون ليطفئوا نور
الله بأفواههم ويأبى
الله إلَّا أن يُتمَّ نوره ولو كره الكافرون»(١٣٧).
هذا، وقد كان للباجي فيما ذهب إليه سلف من شيوخه منهم أبو ذر الهروي والسمناني وغيرهم(١٣٨) ممَّن يقولون بظاهر الحديث ويحتجُّون بجملة من الأدلة تتمثَّل فيما يلي:
١ـ بما أخرجه ابن أبي شيبة وعمر بن شَبَّة من طريق مجاهد عن عون ابن عبد
الله قال: «
ما مات رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم حتى كتب وقرأ». قال مجاهد: «فذكرتُه للشعبي فقال: صدق سمعت من يذكر ذلك»(١٣٩).
٢ـ ومن طريق يونس بن ميسرة عن أبي كبشة السلولي عن سهل بن الحنظلية «أنَّ النبي صلَّى
الله عليه وسلَّم أمر معاوية أن يكتب للأقرع وعيينة، فقال عيينة: أتراني أذهب بصحيفة المتلمس ؟ فأخذ
رسول الله صلَّى
الله عليه وسلَّم الصحيفة، فنظر فيها فقال: (
قَدْ كَتَبَ لَكَ بِمَا أُمِرَ لَكَ)، قال يونس بن ميسرة: «فنرى
أنَّ رسول الله صلَّى
الله عليه وسلَّم كتب بعدما أنزل عليه»(١٤٠).
٣ـ ورود آثار دالة على معرفته حروف الخط وحسن تصويرها منها:
ـ قوله صلَّى
الله عليه وسلَّم لكاتبه: (
ضَعِ القَلَمَ عَلَى أُذُنِكَ، فَإِنَّهُ أَذْكَرُ لَكَ)(١٤١).
ـ وقوله صلَّى
الله عليه وسلَّم لمعاوية: (
أَلْقِ الدَّوَاةَ، وَحَرِّفِ القَلَمَ، وَأَقِمِ البَاءَ، وَفَرِّقِ السِّينَ، وَلَا تُعورِ المِيمَ)(١٤٢).
ـ وقوله صلَّى
الله عليه وسلَّم: (
لَا تَمُدَّ: بِسْمِ اللهِ)(١٤٣).
ورغم هذه الأدلة المساقة، فإنَّ مذهب جمهور العلماء والمحدثين القول بالمنع من أن يكون
رسول الله صلَّى
الله عليه وسلَّم قد كتب حرفًا واحدًا بيده، بل له صلَّى
الله عليه وسلَّم كتَّاب يكتبون بين يديه الوحي والرسائل إلى الأقاليم، وأجاب الجمهور عن الأحاديث الواردة في المسألة بأنها ضعيفة لا يحتجُّ بها(١٤٤)، وأنه لو كتب بيده لنُقِل إلينا لأنَّ الدواعي متوفِّرة على نقله، وأنَّ لفظ «كتب» في حديث المقاضاة مؤول إلى معنى الأمر بالكتابة، وهو في اللغة كثير، كقوله: كتب إلى قيصر، وكتب إلى كسرى، وقطع السارق، ورجم ماعزًا، وجلد الشارب، فهو ما يعرف بالإسناد المجازي أو المجاز العقلي. وعلى تقدير حمله على ظاهره فلا يلزم من كتابة اسمه الشريف ذلك اليوم وهو لا يحسن الكتابة أن يصير عالمًا بالكتابة ويخرج عن كونه أمِّيًّا(١٤٥).
وفي هذا المضمون يقول الحافظ الذهبي: «يجوز على النبي صلَّى
الله عليه وسلَّم أن يكتب اسمه ليس إلَّا، ولا يخرج بذلك عن كونه أُمِّيًّا، وما مَن كتب اسمه من الأمراء والولاة إدمانًا للعلامة يُعَدُّ كاتبًا، فالحكم للغالب لا لما نَدَر، وقد قال عليه السلام: (
إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ وَلَا نَحْسُبُ)(١٤٦)، أي لأنَّ أكثرهم كذلك، وقد كان فيهم الكَتَبة قليلًا، وقال تعالى: ﴿
هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ﴾ [الجمعة: ٢]، فقوله عليه السلام: (
لَا نَحْسُبُ) حقٌّ، ومع هذا فكان يعرف السنين والحساب، وقَسْمَ الفَيْءِ، وقِسْمَةَ المواريث بالحساب العربي الفطري لا بحساب القِبط ولا الجَبْر والمُقابلة، بأبي هو ونفسي صلَّى
الله عليه وسلَّم، وقد كان سيد الأذكياء، ويَبْعُد في العادة
أنَّ الذكيَّ يملي الوحي وكُتُبَ الملوك وغير ذلك على كتَّابه، ويرى اسمَه الشريف في خاتِمه، ولا يعرف هيئة ذلك مع الطُّول، ولا يخرج بذلك عن أُميَّته، وبعض العلماء عدَّ ما كتبه يوم الحُدَيْبِيَة من معجزاته، لكونه لا يعرف الكتابة وكتَبَ، فإن قيل: لا يجوز عليه الكتابة، فلو كتب لارتاب مبطل ولقال: كان يحسن الخطَّ، ونظر في كتب الأولين؛ قلنا: ما كتب خطًّا كثيرًا حتى يرتاب به المبطلون، بل قد يقال: لو قال مع طول مدة كتابة الكُتَّاب بين يديه: لا أعرف أن أكتُب اسمي الذي في خاتمي، لارتاب المبطلون ـ أيضًا ـ، ولقالوا: هو غاية في الذكاء، فكيف لا يعرف ذلك ؟ بل عرفه، وقال: لا أعرف. فكان يكون ارتيابهم أكثر وأبلغ في إنكاره»(١٤٧).
وفي هذا الصدد، فقد صنَّف القاضي أبو الوليد الباجي رسالةً في هذا الموضوع ينتصر فيها لرأيه ويبيِّن وجوه المسألة ويفنِّد أقوال المخالفين له في الرأي الذين رمَوْه بالكفر والزندقة، وسمَّى هذه الرسالة: «
تحقيق المذهب في أنَّ رسول الله قد كتب»(١٤٨
-[انظر: «ترتيب المدارك» للقاضي عياض (٢/ ٨٠٥)، «سير أعلام النبلاء» للذهبي (١٨/ ٥٤٠)، «طبقات المفسرين» للداودي (١/ ٢١٠)، «الفكر السامي» للحجوي (٢/ ١/ ٢١٧).]).