بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ﴿١﴾ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ﴿٢﴾ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ ﴿٣﴾ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ﴿٤﴾
اخْتِلَاف كُتُب التَّفْسِير فِي المُرَادِ بِالرِّحْلَة:
نَجِد فِي التَّفَاسِيرِ أَنَّ المُرَاد بِرِحْلَة الشِّتَاءِ وَالصَّيْف الَّتِي ذَكَرَها اللَّهُ تَعَالَى فِي سُورَة قُرَيْش أَنَّهَا رِحْلَتَان تِجَارِيَّتَان، إحْدَاهُمَا لِلشَّام وَالأُخْرَى لِلْيَمن،ِ فِي حِين يَقُول أَخرُون أَنَّهَا رِحْلَةٌ تَرْفِيهِيَّة وجهَتُهَا الطَّائِف؛ وَممٌا يُنْسَبُ لِابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلُهُ: "كانُوا يُشَتُّونَ بِمَكَّةَ ويُصَيِّفُونَ بِالطّائِفِ" [1].
اخْتَلَفُوا فِي الوِجْهَة وَالعَدَد وَالغَرَض مِنْهَا وَاتَّفَقُوا فِي تَفَرُّدِ قُرَيْشٍ بِهَا،ٍ إما أَحَدَ القَوْلَيْنِ صَائِبٌ أَوْ كِلَاهُمَا خاطئ، وَلِهَذَا يَجِبُ عَلَيْنَا البَحْث وَالدِّرَاسَة لِمَعْرِفَة مُرَاد اللَّه وَفْقَ مَضْمُون النُّصُوص وَالتَّوَقُّف عَنْ تَرْدِيد مَا نُسِخَ فِي الكُتُبِ رَدْحًا مِنْ الزّمَن.
لَيْسَ الغَرَض مِنْ البَحْث إثْبَات أَوْ نَفْي وُجُود تِجَارَة يَمَانِيَّة اوْشَامِيَّة لِقُرَيْش أَوْ اتِّخَاذِهِم لِلطَّائِف مَلَاذًا آمِنًا مِنْ الحَر، هَذَا مِنْ التَّارِيخ وَلَهُ مَوْضِعُه، لَكِنْ ما يهمنا فَصْل ارْتِبَاط هَذَا الحَدَث القرآني الهام بالمَفْهُوم المنَاقِض لظَاهِر النّصِّ الَّذِي أُشْرِبَت بِهِ التَّفَاسِير.
(رِحْلَة) و(رُحْلَة):
قَرَأَ أَبُو السَّمَّال العدويّ البصري(لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ﴿١﴾ إِيلَافِهِمْ رُحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ﴿٢﴾) [2] والرُّحْلةُ بِالضَّم مَعْنَاهَا الجِهَة الَّتِي يُرْحَل إلَيْهَا أَيْ مَكَان نِهَايَة تَنقُل المُرْتَحِل فِي رِحْلَتِهِ، وهَذِه القِرَاءَة كَذَلِك جَاءَت بِالمُفْرَدِ وَلَمْ تذْكر الرُحْلَةَ بِالمثَنَّى، وهذا دليل أخر عن بطلان القول أَنَّهُمَا وِجْهَتَانِ وجهَةٌ لِلشَّامِ وَوِجْهَةٌ لِلْيُمَنِ.
مراحل أطوار القمر (أدوار القمر)
الدَلَالَةُ الزَّمَنِيَّةِ للشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ:
الرِحْلَةٌ وَاحِدَةٌ وذَاتُ وجِهَةٌ وَاحِدَةٌ، اقْتَرنت تَسْمِيَتها بِالشِّتَاءِ وَالصَّيْف فَهَذَا لَهُ عِدَّة دَلالَات، أَبْرَزُهَا الدَّلَالَة الزَّمَنِيَة، وَتَتَعَلَّقُ بِالتَّقْوِيمِ القَمَرِيِّ الَّذِي كَانَ يَتْبَعُهُ العَرَبُ وَيُوَافِقُ التَّقْوِيمَ الشَّرْعِي.َ
قال الله تعالى: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) ﴿يونس: ٥﴾.
مَعْلُومٌ أَنَّ السَّنَةَ القَمَرِيَّةَ تَتَكَوَّنُ مِنْ إِثْنًا عَشَرَةً شَهْرًا غَيْرَ ثَابِتَةٍ وَتَدُورِ عَلَى فُصُولِ السَّنَّةِ، وَاَلَّتِي تُسَاوِي ثَلَاثَمِائَةٍ وَأَرْبَعٌ وَخَمْسُونَ يَوْمَا،ٌ فَمَثَلَا رَمَضَانَ الَّذِي نَصُومُهُ صَيْفًا بَعْدَ عِدَّةِ سَنَوَاتٍ يَأْتِي فِي فَصْلِ الشِّتَاءِ.
نَسْتَفِيدُ مِنْ هَذَا أَنَّ الرِّحْلَةَ مَوْسِمِيَّةٌ تُقَامُ كُلَّ عَامٍ سَوَاءٌ وَافَقَتْ فَصْل الشِّتَاءِ أَوْالصَّيْفِ وَوِجْهَتَهَا وَاحِدَة، وَهَذَا يُخَالِف القَوْل بِأَنَّ المَقْصُود بِهَا مَا اعْتَادَ عَلَيْهِ بَعْض المَكِّيِّين الَّذِين يُصَيِّفُونَ فِي الطَّائِف، تَعَالَوْا نتَابِعُ رِحْلَتَنَا فِي البَحْث عَنْ هَذِهِ الرِّحْلَةِ القُرْآنِيَّة المُبَارَكَة.
طرق التجارة القديمة في شبه الجزيرة العربية
علاقة قُرَيْش بِالرِّحْلَة:
يَقُولُ اللّهُ تَعَالَى: (لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ ﴿١﴾ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ ﴿٢﴾ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ ﴿٣﴾ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ ﴿٤﴾).
قُرَيْش قَبَائِل عِدَّة وَأَطْيَاف دِينِيَّة مُخْتَلِفَة وَلَيْست مِلَّتِهِم وَاحِدَة مِنْهُمْ حُنَفَاء وَيَهُود وَنَصَارَى..، مِنْهُم وَرَقَة بْنُ نَوْفَل الأَسَدِيُّ القُرَشِيُّ الَّذِي وَثقَتِ النُّصُوص مَنَاقِبَهُ، وَمِنْهُم عَبْدُ العِزَّى بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ بْنُ هَاشِمٍ القُرَشِيُّ (أَبُو لَهَب)، وَمِنْهُم البِطَاح وَمِنْهُم الظَّواهر؛ مَكَّةَ كَانَت مَرْكَز تجَارِي مُهِم، المُجْتَمَع المَكِّيِّ كَانَ خَلِيطٌ مِنْ الوافدين مِنْهُمْ الرُّوْمُ وَالفُرَسُ وَرَقِيقٌ مِنْ كُلِّ أَنْحَاءِ العَالِمِ. القُرْآنُ ذَكْرُهُمْ بِنَسَبِهِمْ الشَّرِيفِ دَلَالَةً مُمَيْزَةٌ لِهَذِهِ الرِّحْلَةِ وَشَرْفُهَا،َ وَرِثُوهَا كَابِرًا عَنْ كَابِرٍ وَكَانَتْ مِنْ أَسْبَابِ عِزِّهِمْ وَسُؤْدُدِهِمْ فِي الجَاهِلِيَّةِ.
هَذِهِ الرِّحْلَة أَلِفهَا نَسْل النُّبُوَّةِ وَآلُ البَيْتِ وَرَثَةُ العِلْمِ وَالإِمَامَة، لَا يُمْكِن تَصْنِيفُهَا إِلَّا فِي الإِطَارِ الدِّينِي المُقَدَسِ، لَا عَلَاقَةَ لَهَا لَا بِتِجَارَة وَلَا سِياحَة، وَرِحْلَة الشِّتَاء وَالصَّيْف المَقْصُودَة فِي سُورَة قُرَيْشٍ هُوَ حَجُّ بَيْتِ اللَّهِ الحَرَامِ.
الحَجُّ كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ العَرَبِ مَشْهُورَا،ٌ وَصَلتنَا مِنْ الأَشْعَارِ الجَاهِلِيَّةِ الَّتِي ذكرَ فِيهَا الحَجُّ وَمِمَّا قَالَ لبييد بْنِ رَبِيعَة العَامِرِيّ مِنْ قَبِيلَة عَامِر بِشَرْقِ الجَزْيَرَةِ:
عفت الديار محلها فمقامها
بمنى تأبد غولها فرجامها
دمنّ تجرم بعد عهد أنيسها
حجّج خَلون حلالها وحرامها
قَدْ تَنْقَطِعُ بَعْضُ القَبَائِلِ عَنْهُ فِي بَعْضِ الأَوْقَات لِأَسْبَاب الحُرُوب أَوِ المَجَاعَات وَالأُوبِئَةِ، أَمَّا قُرَيْشٌ أَثْبَت لَهَا القرَأَن لُزُومَهَا لَهُ وَ مُوَاظَبَتَهَا عَلَيْه؛ وَلكن كَعَادَةِ الأُمَمِ الَّتِي مِنْ قبَلِهِمْ وَسُنَنِهِمْ أُدْخَلُوا عَلَيْهِ مِنْ الشِّرْكِيَّاتِ الَّتِي تَخْدِمُ مَصَالِحَهُمْ الدُّنْيَوِيَّةَ وَضَيْعُوا دِينهِمَ،ٍ فَبَعَثَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِمْ مَنْ يقوّمُ دِينَهُمْ الَّذِي حَرَّفُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، وَجَاءَ الأَمْرُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ بِالرُّجُوعِ لِدِينِ الحَقِّ وَتَوْحِيدِ العِبَادَةِ لِلَّهِ وَحْدَهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ ﴿٣﴾).
والله أعلم.
__________
[1] أخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، وابْنُ مَرْدُويَهَ والضِّياءُ في المُخْتارَةِ عَنِ ابْنِ عَبّاسٍ في قَوْلِهِ: (لإيلافِ قُرَيْشٍ) قالَ: نِعْمَتِي عَلى قُرَيْشٍ ( إيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ والصَّيْفِ) قالَ: كانُوا يُشَتُّونَ بِمَكَّةَ ويُصَيِّفُونَ بِالطّائِفِ ﴿فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذا البَيْتِ﴾ قالَ: الكَعْبَةُ ﴿الَّذِي أطْعَمَهم مَن جُوعٍ وآمَنَهم مِن خَوْفٍ﴾ قالَ: الجُذامُ.
[2] معجم القراءات القرآنية مع مقدمة في القراءات وأشهر القراء/ أحمد مختار عمر، عبد العال سالم مكرم/جامعة الكويت /الطبعة الثانية 1408 هـ 1988م/ 245؛ 8.
[3] الراوي: أبو هريرة| المحدث: شعيب الأرناؤوط| المصدر: تخريج المسند لشعيب الصفحة أو الرقم: 10507 | خلاصة حكم المحدث: صحيح| التخريج: أخرجه البخاري (1189)، ومسلم (1397)، وأبو داود (2033)، والنسائي (700)، وابن ماجه (1409)، وأحمد (10507) واللفظ له.