11-30-2024, 11:23 PM
|
عضو
|
|
تاريخ التسجيل: 13-02-2020
الدولة: أرض الله
المشاركات: 245
معدل تقييم المستوى: 5
|
|
الإحصاء السكاني والتدوين في زمن البعثة النبوية
بسم الله الرحمن الرحيم
تقتضي بعض الأحكام الشرعية إحصاء عدد فئات معيّنة في المجتمع، وقبل التطرق إليها يجب علينا أولا توثيق عدد المسلمين إبّان البعثة النبوية (أهل المدينة، أهل مكة، الأعراب) بغض النظر عن بقيّة المسلمين في أمصار الجزيرة العربية.
جاء في الحديث:
لَمَّا كانَ يَوْمُ حُنَيْنٍ، التَقَى هَوَازِنُ ومع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عَشَرَةُ آلَافٍ والطُّلَقَاءُ ، فأدْبَرُوا، قالَ: يا مَعْشَرَ الأنْصَارِ، قالوا: لَبَّيْكَ يا رَسولَ اللَّهِ وسَعْدَيْكَ، لَبَّيْكَ نَحْنُ بيْنَ يَدَيْكَ، فَنَزَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فَقالَ: أنَا عبدُ اللَّهِ ورَسولُهُ. فَانْهَزَمَ المُشْرِكُونَ، فأعْطَى الطُّلَقَاءَ والمُهَاجِرِينَ ولَمْ يُعْطِ الأنْصَارَ شيئًا، فَقالوا، فَدَعَاهُمْ، فأدْخَلَهُمْ في قُبَّةٍ، فَقالَ: أمَا تَرْضَوْنَ أنْ يَذْهَبَ النَّاسُ بالشَّاةِ والبَعِيرِ، وتَذْهَبُونَ برَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؟ فَقالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: لو سَلَكَ النَّاسُ وادِيًا، وسَلَكَتِ الأنْصَارُ شِعْبًا؛ لَاخْتَرْتُ شِعْبَ الأنْصَارِ.[1]
وفي أثر طويل:
(.. فَصَلَّى رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ في المَسْجِدِ، ثُمَّ رَكِبَ القَصْوَاءَ، حتَّى إذَا اسْتَوَتْ به نَاقَتُهُ علَى البَيْدَاءِ ، نَظَرْتُ إلى مَدِّ بَصَرِي بيْنَ يَدَيْهِ، مِن رَاكِبٍ وَمَاشٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلَ ذلكَ، وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذلكَ، وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذلكَ ..)[2]
وذُكر في كتب التاريخ أن عدد المقاتلين في غزوة تبوك (9 هـ) بلغ ثلاثون ألف مقاتل: (وشهدها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في ثلاثين ألفًا من الناس، والخيلُ عشرة آلاف فرس، وأقام بها عشرين ليلةً يقصر الصلاة، وهرقل يومئذ بحِمْص)اهـ [3]
وقد ذكر بعض أهل العلم أن عدد المسلمين في المدينة تجاوز المئة ألف[4]، وهو أمر معقول إذا علمنا أن عدد المقاتلين في الغزوة بلغ عشرات ألآف، أضف لذلك العدد مثله أو أكثر من النساء، وكذلك الصبيان والشيوخ والمرضى وغيرهم.
الجهاد وصرف الغنائم:
قال الله تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال: 41]
وصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
(قَسَمَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومَ خَيْبَرَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، ولِلرَّاجِلِ سَهْمًا. قالَ: فَسَّرَهُ نَافِعٌ فَقالَ: إذَا كانَ مع الرَّجُلِ فَرَسٌ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أسْهُمٍ، فإنْ لَمْ يَكُنْ له فَرَسٌ فَلَهُ سَهْمٌ.)[5]
الجهاد يقتضي إحصاء المقاتلين من حيث العدد، فأي قائد لابد أن يعلم عدد جنوده قبل أن يضع خطة المعركة، وليقوم بتجهيزهم، وعند تقسيم أسهم الغنائم لابد أيضا من معرفة عدد المجاهدين الراجلين والفرسان، لكي يكون عدد الأسهم متناسبا مع عدد المقاتلين، فلو غنم 800 من المسلمين مثلا في غزوة ألف سيف، فإن خمسه (200) لله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل، تبقى 800 سيف تُقسم على عدد المقاتلين الراجلين، فيخرج 800 سهم أي كل مقاتل يغنم سيفا واحدا، لكن لو كان عدد المجاهدين 400، هنا سيتغيّر عدد الأسهم فبدل أن يكون 800، يُصبح 400 سهما، وكل مقاتل يغنم سيفين.
وفي حال وجود فرسان، يتغيّر عدد الأسهم أيضا فيغنم الفارس ثلاثة أسهم، سهم له واثنين لفرسه، والراجل يغنم سهما.
إذن لابد معرفة عدد المقاتلين قبل تقسيم الغنائم لأن عدد الأسهم منوط بعدد المقاتلين.
ويقتضي الجهاد أيضا إحصاء المقاتلين من حيث الهويّة، لحفظ الحقوق والتوثيق، ففي حال استشهد المجاهد من حق ورثته أن يرثوا سهمه.
إذا لابد من وجود إدارة في المدينة تحصي عدد وهوية المقاتلين، وعدد الغنائم وقيمتها، وعدد الأسهم، وكل هذا لابد له من تدوين وكتابة وتوثيق، فقوام الجيش بلغ عشرات الآلاف من المقاتلين.
قال الله تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [الأنفال: 41]
وقال {مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [الحشر: 7]
من المستحقين لحصة الخمس، وللفيء، ذكر الله تعالى اليتامى، وهذه الفئة من المجتمع أيضا تقتضي الإحصاء حتى لا تضيع حقوقهم، ولا يُعقل أن في مقدرة أحد أن يتذكر ويتابع عدد وهوية اليتامى فردا فردا في مجتمع عدد سكانه مئة ألف أو أكثر، خاصة أن العدد في تغير مستمر، أي أنه لا بد من وجود إدارة وعاملين يحصون ويكتبون ويوثقون عدد اليتامى ويحسبون أسهمهم وربما يؤدّوها إليهم أيضا.
الزكاة والصدقات:
قال الله تعالى {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 60]
من مصارف الزكاة، ذكر الله تعالى العاملين على الصدّقات، أي أنه في زمن البعثة كان هناك عاملون متخصصّون في العمل على الصدقات، وكانوا يأخذون أجرهم منها، أي أنهم متفرّغون لهذه المهمة، ولأدائها على وجهها بأمانة ومن غير ضياع حق في مجتمع تجاوز عدد سكانه المئة ألف، لابد للعاملين عليها أن يدوّنوا معاملاتهم ويوثّقوها كتابة.
ومن المستحقين للزكاة أيضا الغارمين، أي الذين عليهم دين، وهذه المعاملة أيضا تقتضي التوثيق كتابة حيث يجب على الغارم إثبات وقوع الدين أمام العاملين على الصدقات، وذلك بإظهار وثيقة المداينة مرفقة بشهادة الشهود الذين شهدوا المعاملة كما جاء في آية المداينة،
قال الله تعالى {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [البقرة: 282]
وفي ضوء ما تقدّم، نخلص أن أهل المدينة كانوا متحضّرين، يقرؤون ويكتبون ويوثقّون العديد من التعاملات بينهم.
________________
[1] الراوي : أنس بن مالك | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري
الصفحة أو الرقم : 4333 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح]
[2] الراوي : جابر بن عبدالله | المحدث : مسلم | المصدر : صحيح مسلم
الصفحة أو الرقم : 1218 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح]
[3] ابن قيم الجوزية، زاد المعاد في هدي خير العباد، تحقيق: نبيل بن نصار السندي، 1440 هـ، دار ابن حزم، بيروت، الطبعة الثالثة، الجزء الثالث، صفحة 664.
[4] روى الخطيب البغدادي عن أبو زرعة الرازي (شيخ مسلم) أنه لما توفي الرسول صلى الله عليه وسلم كان عدد الصحابة مئة ألف وأربعة عشر ألف صحابي، انظر: كتاب الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، الجزء الثاني، صفحة 293.
[5]الراوي : عبدالله بن عمر | المحدث : البخاري | المصدر : صحيح البخاري
الصفحة أو الرقم : 4228 | خلاصة حكم المحدث : [صحيح]
|