بِسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ
منتـدى آخـر الزمـان  

العودة   منتـدى آخـر الزمـان > منتدى الباحث الشرعي [بهاء الدين شلبي] > مناقشة الأبحاث والدراسات > الأبحاث والدراسات

الأبحاث والدراسات
جميع أبحاث ودراسات الباحث: بهاء الدين شلبي.(للاطلاع فقط والمناقشات في قسم مناقشة الأبحاث والدراسات).

               
 
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع إبحث في الموضوع انواع عرض الموضوع
  #1  
قديم 03-03-2015, 07:03 PM
المدير
 Egypt
 Male
 
تاريخ التسجيل: 16-12-2013
الدولة: القاهرة
العمر: 57
المشاركات: 6,833
معدل تقييم المستوى: 10
بهاء الدين شلبي تم تعطيل التقييم
افتراضي حصري: نبوة "ذي القرنين"

نبوة "ذي القرنين"

الكاتب: بهاء الدين شلبي.

هذا البحث استدراك على كتابي بعنواني (ملك جرت بأمره الريح) ردا على شبهة نبوة ذي القرنين، مما لزم منه كتابة هذا المبحث ردا عليها، وسوف أقوم بتضمين هذا البحث مع الكتاب بإذن الله تعالى، ونظرا لأهميته حرصت على أن يكون مستقلا عن الكتاب.

اختلف السلف رضوان الله عليهم، وأهل العلم، في نبوة "ذي القرنين"، ما بين مثبت لنبوته، وبين منكر لها، وممن قال بنبوته (عبد الله بن عمرو، وسعيد بن المسيب، والضحاك بن مزاحم، والفخر الرازي، وابن كثير). أما المنكرون فأتوا بأقوال عجيبة تدعوا للشك في صحة إسنادها إليهم. فلم يتوقفوا عن الحكم في تحديد نبوته، بناءا على حديث يقول فيه النبي صلى الله عليه وسلم: (... وما أدري ذا القرنين أنبيا كان أم لا؟...).

هذا الحديث صححه الألباني في (السلسلة الصحيحة: 5/251). وأخرجه الحاكم في (المستدرك: 1 / 107) وقال: (هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولا أعلم له علة ولم يخرجاه) ووافقه الذهبي. وعنه في (السنن الكبرى: 8/329) قال البيهقي: (وأما الحديث الذي اخبرنا أبو عبد الله الحافظ أخبرنا أحمد بن جعفر القطيعي حدثنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي حدثنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ما أدري تبع ألعينا كان أم لا، وما أدري ذا القرنين أنبيا كان أم لا، وما أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا). فهكذا رواه عبد الرزاق عن معمر. (ت) ورواه هشام الصنعاني عن معمر عن ابن أبى ذئب عن الزهري عن النبي صلى الله عليه وسلم مرسلا. قال البخاري :وهو أصح، ولا يثبت هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحدود كفارة).

رغم أن أهل العلم صححوا إسناد الحديث، إلا أن متنه محل نظر، نقل البيهقي عن الإمام البخاري قوله: (ولا يثبت هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الحدود كفارة). (السنن الكبرى: 8/329). بينما بعض العلماء كالهيثمي قال: (يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم قاله في وقت لم يأته فيه العلم عن الله ثم لما أتاه قال ما رويناه في حديث عبادة وغيره) (السلسلة الصحيحة: 5/252). وهذا الاحتمال هو مجرد ظن لا يدعمه دليل معتبر، لأن ظاهر الحديث أنه قاله بعد نزول سورة الكهف، والتي بينت طرفا من ملامح نبوة "ذي القرنين" حيث كان مجهولا قبل نزولها، وهذا يرجح صحة قول الإمام البخاري بنفي ثبوت المتن.وهذا النص يتعلق بثلاثة مسائل مختلفة، وصلنا حديثين ينفيان في مسألتين منهما فقط، فيما يتعلق بلعن تبع من عدمه، وتكفير الحدود لأهلها من عدمه، بينما المسألة الثالثة لم يصل إلينا نص ينفي نبوة "ذي القرنين". وهذا خبر محقق لا يدخل في النسخ، لأن النسخ اصطلاحا هو رفع الحكم الشرعي بدليل شرعي متأخر. وقوله: (ما أدري) ليس حكما يتضمن أمرا أو نهيا، ولو دخل في النسخ لكان كذبا.

فقوله: (ما أدري أتبع كان لعينا أم لا؟) فيرده حديث صحيح في (صحيح الجامع) عن سهل بن سعد (لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم). وقوله: (وما أدري الحدود كفارات لأهلها أم لا؟) فيرده حديث صحيح أخرجه البخاري في (الجامع الصحيح) عن عبادة بن الصامت قال: كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أتبايعونني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تزنوا، ولا تسرقوا) - وقرأ آية النساء، وأكثر لفظ سليمان: قرأ الآية – (فمن وفى منكم فأجره على الله، ومن أصاب من ذلك شيئا فعوقب فهو كفارة له، ومن أصاب منها شيئا من ذلك فستره الله فهو إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له).
حصري: نبوة "ذي القرنين"
في (المحلى بالآثار) الجزء الثاني عشر قال ابن حزم: (والقول عندنا فيه: أن أبا هريرة لم يقل أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الكلام, وقد سمعه أبو هريرة من أحد المهاجرين, ممن سمعه ذلك الصاحب من رسول الله صلى الله عليه وسلم في أول البعث, قبل أن يسمع عبادة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إن الحدود كفارة) فهذا صحيح بأنه عليه السلام لا يعلم إلا ما علمه الله تعالى, ثم أعلمه بعد ذلك ما لم يكن يعلمه حينئذ, وأخبر به الأنصار, إذ بايعوه قبل الهجرة, والحدود حينئذ لم تكن نزلت بعد, لا حين بيعة عبادة ولا قبل ذلك, وإنما نزلت بالمدينة بعد الهجرة, لكن الله تعالى أعلم رسوله عليه السلام أنه سيكون لهذه الذنوب حدود, وعقوبات (وإن كان لم يعلمه بها) لكنه أخبره أنها كفارات لأهلها (هذا هو الحق الذي لا يجوز غيره) إن صح حديث أبي هريرة ولم تكن فيه علة).

دراسة الحديث:

إذا حملنا قوله (وما أدري ذو القرنين أنبيا كان أم لا؟) على معنى أنه لا يعلم نبوة "ذي القرنين" من عدمها، فهذا إشكال يفرز شبهة تقتضي وجود نص مبين، وهذا النص غير موجود. هذا على غرار قوله: (ما أدري أتبع كان لعينا أم لا؟)، والذي يرده قوله: (لا تسبوا تبعا فإنه كان قد أسلم). ولأن القرآن والسنة نزلا تبيانا لكل شيء، قال تعالى: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ) [النحل: 89]، فقد اكتمل الدين وتم، ولم يصلنا من السنة نص ينفي عنه النبوة. لذلك ففهمنا للنص على هذا النحو، دفع المنكرون للطعن به في الدين، حيث لا يصح أن يشكل عليه أمر بدون يبين له ربه ما أشكل عليه بنص آخر، فانتفاء وجود النص المبين يفرض علينا إعادة النظر في المتن لفض الإشكال.

على فرض صحة متن الحديث كما صح سنده، فإن الألف من قوله (أنبيا كان) هي همزة الاستفهام، وحقيقته طلب الفهم، التي دخلت على الإثبات في (نبيا كان)، فسبقت همزة الاستفهام (نبيا)، إذن فهو يشك في حال نبوته الثابتة ضمنيا. وعلى فرض انتفاء ثبوت النبوة لقدم (كان) على (نبيا) فتسبق همزة الاستفهام الفعل (كان) ليسأل: (أكان نبيا أم لا؟)، فيكون الشك في الفعل نفسه، أي الشك في تحقق نبوته من الأصل.

أما قوله (أنبيا كان أم لا؟) فإن (أم) هنا، هي (أم) المتصلة، جاءت قبل (لا) النافية، وتستحق الجواب بالنفي بـ (لا)، أو الإثبات بـ (نعم)، أي نفي الشك أو ثبوته، لأنها مسبوقة بهمزة الاستفهام. ولا يصح أن يكون الجواب بالتعيين، كأن يقال (نبي) أو(رجل صالح). كأن يسأل (أزيد عندك أم لا؟) فالثابت لدى السائل هو وجود زيد عنده، إنما أراد قطع الشك في عدم وجوده، فيكون الجواب بنعم أو لا. هذا خلاف سؤاله (أزيد عندك أم عمرو) فيكون الجواب بالتعيين (عندي زيد).

لبيان وجه الاستدلال هنا سننظر فيما قاله تعالى: (قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ) [الأنبياء: 59: 63]، فثابت لهم ذكر إبراهيم عليه السلام وعداوته لآلهتهم، بدليل قولهم (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ)، فهم لا يشكون في عداوته لآلتهم، إنما شكهم في تعيين الفاعل أو غيره، فأرادوا حمله على الإقرار، لينتزعوا منه الاعتراف، فسألوه؛ (أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ)، فيجب أن يكون الجواب بتعيين الفاعل، فبدلا من أن يعين نفسه، نسب الفعل إلى كبير الآلهة (قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا).

قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ) [المائدة: 116]، وهنا يسأل الله تعالى عيسى عليه السلام (أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ)، إن الله سبحانه وتعالى أعلى وأعلم وغني عن سؤاله، فيكون تقدير الجملة؛ إن الناس يزعمون أنك قلت لهم اتخذوني وأمي إلهين من دون الله، فيأتي الاستفهام؛ (أأنت قلت لهم هذا أم لا؟)، إذن فزعم الناس ثابت في حقهم، وإنما الشك في أن يكون المسيح عليه السلام قد قال هذا بالفعل، فيكون الجواب بنعم أو لا، وهو ما نفاه المسيح عليه السلام.

في كلا المثلين السابقين، كان هناك مسوغا معتبرا للشك، ففي قصة إبراهيم عليه السلام، كان مسوغ الشك أنه الفاعل لجهره بعداوته لآلهتهم (قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ) فيكون الجواب بالتعيين هو أو غيره. بينما كان المسوغ المعتبر في قصة المسيح عليه السلام، التحقق من صدق زعم الناس أنه قال (اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ)، فيكون الجواب بثبوت الزعم أو نفيه.

أي أن الثابت لدى النبي صلى الله عليه وسلم هو نبوة "ذي القرنين"، وإنما الشك لديه كان في نفي النبوة عنه، وليس في تحقق النبوة له. لكن هذا الشك في انتفاء نبوته بغير مسوغ معتبر، وغياب المسوغ المعتبر هنا علة تطعن في ثبوت متن الحديث رغم صحة إسناده، فيما اصطلح عليه باسم (تركيب الإسناد) حيث يركب إسناد صحيح على متن موضوع، فإذا كان ظاهر الآيات يثبت نبوته، فإنه لا يوجد مسوغ معتبر بعد الوحي يدعو للشك فيها.

على فرض صحة المتن، فإن عدم ورود نص بياني ينفي النبوة عن "ذي القرنين"، فإن الحكم بنبوته يبقى ثابتا على أصله، ليفقد الشك حيثيته، كأن لم يكن. وعليه لا يصح القول بالتوقف في الحكم بنبوته كما ذهب البعض، إنما يكون التوقف في الشك في نفي نبوته لا في ثبوتها. بدليل أن السلف وأهل العلم لم يتوقفوا في الحكم، وأثبتوا له النبوة مثل: (عبد الله بن عمرو، وسعيد بن المسيب، والضحاك بن مزاحم، والفخر الرازي، وابن كثير).

فقوله (ما أدري) لا يفيد عدم علمه بدلالات نبوته، إنما يفيد شكه في نفيها. فالتوقف في الحكم نبوته يتعارض مع حمل النص على ظاهره، فلا يستقيم أن ظاهر النص يشير إلى نبوته ثم يتوقف عن الحكم بغير مسوغ معتبر يغادر ظاهر النص. والأخذ بظاهر النص هو ما ذهب إليه الكثير من أهل العلم، فحكموا بنبوته، وانتفى الشك لديهم لانتفاء وجود النص البياني لما أشكل عليه.

دلائل نبوة ذي القرنين:
لم يرد نص يبين نبوة الخضر عليه السلام، إلا أن بعض أهل العلم قالوا بنبوته تبعا لظاهر دلالة النص، حيث علم أمورا غيبية لا يعمها أحد إلا بوحي. وهذا يسري على "ذي القرنين" أيضا، حيث سرد نبوءة في نهاية قصة بناء السد من قوله تعالى: (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) [الكهف: 98]، ولا يمكن لذي القرنين العلم بهذه النبوءة إن لم يكن نبيا يوحى إليه، خاصة وأنها نبوءة متعلقة بأحد علامات الساعة الكبرى. ويستدل على نبوة "ذي القرنين" من كتاب الله تعالى بما يلي:

الدليل الأول: قوله تعالى: (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا) [الكهف: 86]. وكلمة (قُل) من قوله تعالى (قُلْنَا) يسميها علماء التفسير واللغة (قل التلقينيه)، و(نَا) عائدة على الله تبارك وتعالى. وهذا تلقين صريح من الله تعالى إلى "ذي القرنين"، والمخاطبة بين الله عز وجل وعبده لا تكون إلا وحيا، أو من وراء حجاب، أو يرسل ملكا فيوحي من خلاله بإذنه ما يشاء، قال تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْيًا أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاء إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) [الشورى: 51].

وإن الوحي بين العبد وربه لا يكون إلا لرسول أو نبي، خاصة إذا كان الموحى به حدودا شرعية وأمرا بالتعذيب أو الإحسان، لأن الحدود هي هدي من الله عز وجل، وهذا التخصيص بالهدي هو التشريعات التي لا تكون إلا لنبي يوحى إليه. قال تعالى: (قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ) [سبأ: 50]. قال تعالى: (كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [الشورى: 3].

أبو حيان في (تفسير البحر المحيط: 7/488) قال: (وظاهر قوله (قُلْنَا) أنه أوحى الله إليه على لسان ملك. وقيل: كلمه كفاحا من غير رسول كما كلم موسى عليه السلام ، وعلى هذين القولين يكون نبيا ويبعد ما قاله بعض المتأولين أنه إلهام وإلقاء في روعه لأن مثل هذا التخيير لا يكون إلا بوحي إذ التكاليف وإزهاق النفوس لا تتحقق بالإلهام إلا بالإعلام. وقال علي بن عيسى: المعنى (قُلْنَا) يا محمد قالوا (يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ) ثم حذف القول الأول لأن ذا القرنين لم يصح أنه نبي فيخاطبه الله ، وعلى هذا يكون الضمير الذي في قالوا . المحذوفة يعود على جنده وعسكره الذين كانوا معه).

حسن النيسابوري في تفسير تفسير (غرائب القرآن ورغائب الفرقان: 5/208) قال: (وقيل: كان نبيا لقوله تعالى: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ) والتمكين المعتد به هو النبوة، ولقوله (وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) وظاهره العموم فيكون قد نال أسباب النبوة، ولقوله: (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا) وتكليم الله بلا واسطة لا يصلح إلا للنبي).

الدليل الثاني: قوله تعالى: (إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا)، فقوله (إِمَّا) الأولى من قوله تعالى: (إِمَّا أَن تُعَذِّبَ) وظيفتها التخيير، فهو مخير بين أن يعذب للمسيء أو يحسن إليه. والتعذيب والإحسان للمسيء، يدخل في جملة الحدود الشرعية كما سبق وبينا، ولا يملك بشر حتى ولو كان نبيا الخيرة في إقامة الحدود إلا بإذن مباشر من الله تعالى، وعليه فالتخيير في إقامة الحدود الشرعية يقتضي نزول وحي به، والوحي من لوازم النبوة، مما دل على أن "ذي القرنين" كان نبي يوحى إليه.

صحح الألباني في (صحيح أبي داود) عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها قالت: أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت فقالوا: من يكلم فيها يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكلمه أسامة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا أسامة! أتشفع في حد من حدود الله؟) ثم قام فاختطب، فقال: (إنما هلك الذين من قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وايم الله! لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعت يدها).

لذلك لا يمكن أن يرخص الله تعالى لأحد من البشر الخير في إقامة الحدود الشرعية إلا أن يكون معصوما، والعصمة لا تكون إلا للأنبياء، وإلا طغى فاقد العصمة في تطبيق هذه الرخصة. والشاهد على هذا أن الله تعالى خاطب نبيه سليمان عليه السلام فقال: (هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [ص: 39].

قال ابن كثير في تفسيره: (أي هذا الذي أعطيناك من الملك التام والسلطان الكامل كما سألتنا فأعط من شئت واحرم من شئت لا حساب عليك. أي مهما فعلت فهو جائز لك احكم بما شئت فهو صواب).

فهذه الرخصة لم تثبت إلا في حق نبي سليمان عليه السلام فقط، وهذا استثناء وخصوصية لا أعلم أنها كانت لنبي غيره، لذلك فلقب "ذو القرنين" صفة خلعها الله تبارك وتعالى على نبيه سليمان، فهما اسم وصفة لشخص واحد، وهو نبي الله سليمان بن داود عليهما السلام.

والذي يجزم بأن التخيير في إقامة الحدود الشرعية يقتضي العصمة للحاكم، فإن سليمان عليه السلام سأل ربه (حكما يصادف حكمه)، أي سأل ربه العصمة في الحكم، وهذا من حديث في (صحيح ابن ماجة) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لما فرغ سليمان بن داود من بناء بيت المقدس سأل الله ثلاثا؛ حكما يصادف حكمه، وملكا لا ينبغي لأحد من بعده، وألا يأتي هذا المسجد أحد لا يريد إلا الصلاة فيه إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه). فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (أما اثنتان فقد أعطيهما، وأرجو أن يكون قد أعطي الثالثة). ولأن العصمة من لوازم النبوة، إذن فإن "ذي القرنين" كان ملكا معصوما بالنبوة.

الدليل الثالث: قال تعالى: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ) [الكهف: 84]. قد يكون التمكين من الله تعالى في الأرض دنيويا، يستوي فيه المؤمن والكافر، لكن بما أن الثابت هو صلاح "ذو القرنين"، فإن أعظم ما يكون التمكين للرجل الصالح في دينه، لا في دنياه فقط، بدليل أن الله تبارك وتعالى أنزل قصته في كتابه العظيم، وهذا دليل على عظمة التمكين له في الأرض، فوجب أن يحمل معنى التمكين هنا على وجه الكمال لا النقص.

واكتمال التمكين في الدين لا يكون إلا بالآيات الربانية، والمعجزات النبوية، والوحي من الله عز وجل، خاصة إذا اقترن التمكين مع مخاطبة الله تعالى له بالتخيير في إقامة الحدود بالتعذيب أو الإحسان، وهذا من قوله تعالى: (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا). ومن هذه الآيات طوافه حول الأرض، وبناءه السد بيننا وبين يأجوج ومأجوج، ونبوءته بوعد الله تعالى بجعل السد دكاء، قال تعالى: (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) [الكهف: 98].

الألوسي في تفسير (روح المعاني: 16/30) قال: (وقيل: تمكينه بالنبوة وإجراء المعجزات وروى القول بنبوته أبو السيخ في العظمة عن أبي الورقاء عن علي كرم الله تعالى وجهه وإلى ذلك ذهب مقاتل ووافقه الضحاك).

حسن النيسابوري في تفسيره (غرائب القرآن ورغائب الفرقان: 5/208) قال: (وقيل: كان نبيا لقوله تعالى: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ) والتمكين المعتد به هو النبوة، ولقوله (وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) وظاهره العموم فيكون قد نال أسباب النبوة، ولقوله: (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا) وتكليم الله بلا واسطة لا يصلح إلا للنبي).

ابن عادل (تفسير اللباب: 11/10) قال: (قال بعضهم: كان نبيا، لقوله تعالى: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ) والأولى حمله على التمكين في الدين، والتمكين الكامل في الدين هو النبوة، ولقوله تعالى: (وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) ومن جملة الأسباب النبوة، فمقتضى العموم أنه آتاه من النبوة سببا، ولقوله تعالى: (يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا) والذي يتكلم الله معه لا بد وأن يكون نبيا. قال ابو الطفيل، وسئل عن ذي القرنين: أكان نبيا أم ملكا؟ قال: لم يكن نبيا، ولا ملكا، ولكن كان عبدا أحب الله، فأحبه الله، وناصح الله فناصحه).

الدليل الرابع: قال تعالى: (وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) [الكهف: 84]. فالذي آتاه من كل شيء سببا هو الله تبارك وتعالى، أي أن الله تبارك وتعالى اختصه بأسباب التمكين في الأرض، وشتان ما بين من أوتي من كل شيء، وبين من آتاه الله تبارك من كل شيء، فلا وجه للمقارنة بينهما.
فقد آتى الله عز وجل داود وسليمان من كل شيء سببا، قال تعالى: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) [النمل: 16]، بينما ملكة سبأ أوتيت، قال تعالى: (إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ) [النمل: 23]، وهذا يدل على تخصيص النبيين بأسباب ربانية، وتفردهم بها عن غيرهم من الملوك الذين أوتوا من كل شيء وهم كافرون، فشتان بين الأسباب الدينية والأسباب الدنيوية.

ابن عادل في (تفسير اللباب: 11/13) يقول: (واستدلوا بعموم قوله: (وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) على أنه كان نبيا كما تقدم، ومن أنكر نبوته قال: المعنى: وآتيناه من كل شيء يحتاج إلى إصلاح ملكه إلا أن تخصيص العموم خلاف الظاهر، فلا يصار إليه إلا بدليل).

والرد على المنكرين، أن التمكين للعبد الصالح يكون في الدين، ومن لوازم التمكين في الدين أن يأتيه الله أسباب التمكين الدينية والدنيوية معا، أما غير الصالح فتكفيه الأسباب الدنيوية فقط، لذلك فوجه تخصيص العموم هنا هو صلاحه وإقامته للدين في مشارق الأرض ومغاربها، والدين يقتضي وجود معجزات تخرق العادات وتمكنه من الطواف حول الأرض وتطوي له الزمان والمكان، وهذا من الأسباب الربانية التي لا تكون إلا لنبي كريم.

الدليل الخامس: قال تعالى: (كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا) [الكهف: 91]، وقوله (أَحَطْنَا) أي حفظنا وتعهدنا (بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا) أي بما عنده من علم، فيكون معنى الآية أن الله تعالى تعهد بحفظ ما لديه من علم، والعلم الذي يتكفل الله تعالى بحفظه هو علم الغيب، والوحي المنزل على الأنبياء والمرسلين، وعلى هذا فدلالة هذه الآية تقطع بنبوة "ذي القرنين" لمن تدبر معانيها ودلالتها اللغوية وربطها بآيات القرآن الكريم، وهذا ما سأشرحه مفصلا.

في لسان العرب: (حوط: حاطه يحوطه حوطا وحيطة وحياطة: حفظه وتعهده... وحاطه الله حوطا وحياطة، والاسم الحيطة والحيطة: صانه وكلأه ورعاه).

في لسان العرب: (لدى: الليث: لدى معناها عند، يقال رأيته لدى باب الأمير، وجاءني أمر من لديك أي من عندك ... وفي التنزيل العزيز: هذا ما لدي عتيد؛ يقول الملك يعني ما كتب من عمل العبد حاضر عندي).

في لسان العرب: (والخِبْرُ والخُبْرُ والخِبْرَةُ والخُبْرَةُ والمَخْبَرَةُ والمَخْبُرَةُ، كله: العلم بالشيء؛ تقول: لي به خبر، وقد خبره يخبره خبرا وخُبْرةً وخِبْرًا واخْتَبَرَهُ وتَخَبَّرهُ، يقال: من أين خبرت هذا الأمر أي من أين علمته؟ وقولهم لأَخْبُرَنَّ خُبْرَكَ أي لأعلمن علمك، يقال: صدق الخَبَرُ الخُبْرُ).

وقد تكرر في (سورة الجن) ذكر إحاطة الله بما لدى المرسلين، من علم استأثرهم به من غيبه، وبما أنزل عليهم من نبوات ورسالات، فتكفل بحفظ الرسالة وحفظ الرسل من الملائكة الذين كلفهم بتبليغها إلى المرسلين، حتى يضمن الله تعالى تبليغ رسالته دون أن يسبق إلى علمه أحد من الجن أو الإنس إلا من ارتضى من رسول، لتقام الحجة على خلقه المخاطبين بالوحي.

قال تعالى: (قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا * إِلاَّ بَلاَغًا مِّنَ اللَّهِ وَرِسَالاَتِهِ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا * حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا * قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيب مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا * عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا * لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا) [الجن: 22: 28].

والشاهد من الآيات السابقة المترابطة المضمون، قوله تعالى: (وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ)، تكررت مع قصة ذي القرنين، من قوله تعالى: (كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا) [الكهف: 91]، مع إضافة قوله (خُبْرًا)، والتي تعنى العلم، فأي نوع من العلم قد أحاط به الله وحفظه؟ سنجد تفصيل هذا العلم في مدلول هذه الآيات، وهو علم الغيب الذي اختص الله به المرسلين والأنبياء، وهذا من قوله تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ).

وإحاطة الله تعالى وحفظه علم الغيب النازل به رسله من الملائكة كان بالشهب الراصدة لقوله تعالى: (إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا)، وكان الشهاب الرصد يصيب مسترق السمع من شياطين الجن، حتى لا تسبق الجن بعلم الوحي قبل أن توحي به الملائكة إلى من ارتضى الله تعالى من المرسلين والأنبياء. وهذا ظهر جليا في قصة وفاة سليمان عليه السلام، قال تعالى: (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) [سبأ: 14]. لذلك لما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل عليه الوحي، شددت الحراسة في السماء لحفظ الوحي من مسترق السمع من الجن، فمن يسترق السمع يجد له شهابا رصدا، قال تعالى: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَّصَدًا * وَأَنَّا لاَ نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا) [الجن: 8: 10].

الدليل السادس: واصل ذو القرنين رحلته من مطلع الشمس حتى (بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ)، فوجهته كانت محددة مسبقا، ولقد كان ذو القرنين على علم بوجود السدين، قبل انطلاقه إليهما، وعلى علم كذلك بما كان بينهما من مدخل "يأجوج ومأجوج"، فقوله (حَتَّى إِذَا بَلَغَ)، يفيد أن هدفه كان بلوغ (بَيْنَ السَّدَّيْنِ)، فقوله (حَتَّى) حرف جر لانتهاء وغاية، و(إِذَا) ظرفا للمستقبل متضمنة معنى الشرط، لأنه جاء بعدها فعل ماضي (بَلَغَ)، ولو جاء اسم بعد (إِذَا) لكانت وظيفتها المفاجأة، كأن يقول (حتى إذا السدين)، هذا مما يدل على أن ذي القرنين كان على علم مسبق بوجود السدين، وكأن ذهابه إلى ما بين السدين كان أشبه برحلة تفقدية لما بينهما. بل كان على علم مسبق بجميع المناطق التي بلغها، لتكرار نفس الصيغة، لقوله تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ)، و(حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ)، و(حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ).

كذلك تكرر دخول (حَتَّى إِذَا) ثلاث مرات في قصة موسى مع الخضر عليهما السلام، قال تعالى: (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا) [الكهف: 71]، قال تعالى: (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلاَمًا فَقَتَلَهُ) [الكهف: 74]، قال تعالى: (فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ) [الكهف: 77]. وفي نهاية المطاف أقر الخضر عليه السلام أن كل ما فعله ما كان عن أمره (وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي) [الكهف: 82]، مما يشير أنه كان نبيا أوحي إليه مسبقا أمرا بخرق السفينة، وقتل الغلام، وإقامة الجدار. وهذا التوافق في الصياغة اللغوية، مما يشير إلى أن "ذي القرنين" أوحى الله إليه مسبقا خبر الأقوام الذين انطلق إليهم، فلم يكن لقاءه بهم غير مقصود منه، مما يثبت أنه كان نبيا كما كان الخضر وسليمان عليهما السلام أنبياء.

لذلك قال له القوم (إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ) على سبيل الشكوى منهم والتضرر من إفسادهم، لا على سبيل إخباره بما يجهل من أمرهما. وهذا يلزم منه أن "ذي القرنين" كان على علم مسبق بإفساد "يأجوج ومأجوج" في الأرض، وأنه انطلق صوبهم لردعهم، ووضع حد حاسم لإفسادهم في الأرض، فقام ببناء السد الثالث).

الدليل السابع: قال تعالى: (قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا) [الكهف: 98]. فهذه نبوءة غيبية متعلقة بأحد علامات الساعة الكبرى تثبت أنه نبي يوحى إليه، والغيبيات بشكل عام، وعلامات الساعة بوجه خاص، لا يعلمها إلا الرسل والأنبياء، قال تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا) [الجن: 26، 27].

ذكر من قالوا بنبوة "ذي القرنين":
1- ابن كثير في (البداية والنهاية: 2/3) قال: (والصحيح أنه كان ملكا من الملوك العادلين وقيل كان نبيا). وفي (البداية والنهاية: 2/7) قال: (فإن الأول كان عبدا مؤمنا صالحا، وملكا عادلا، وكان وزيره الخضر، وقد كان نبيا على ما قررناه قبل هذا).

2- الألوسي في (روح المعاني: 11/383) وفي (روح المعاني: 16/25) قال: (وفي كتاب صور الأقاليم لأبي زيد البلخي أنه كان مؤيدا بالوحي).

3- أبو الفرج ابن الجوزي في تاريخه (المنتظم في تاريخ الملوك والأمم: 1/287) قال: (واختلفوا هل كان نبيا أم لا. فقال عبد الله بن عمرو وسعيد بن المسيب والضحاك بن مزاحم: كان نبيا. وخالفه الأكثرون في هذا، فروينا عن علي رضي الله عنه أنه قال: كان عبدا صالحا أمر قومه بتقوى الله، لم يكن نبيا ولا ملكا. وقال وهب: كان ملكا ولم يوحى إليه. وقال أحمد بن جعفر المنادي: كان على دين إبراهيم).

4- ابن حجر في (فتح الباري: 6/441) قال: (قال الفخر الرازي في تفسيره: كان ذو القرنين نبيا... وقد اختلف في ذي القرنين فقيل كان نبيا كما تقدم، وهذا مروي أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص وعليه ظاهر القرآن).

5- السمرقندي في (بحر العلوم: 3/59) قال: (وقال عكرمة : كان ذو القرنين نبيا ولقمان نبيا والخضر نبيا ، وروى مجاهد ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص كان ذو القرنين نبيا؛).

6- الغزالي (إحياء علوم الدين: 1/70) قال: (وقال صلى الله عليه و سلم (ما أدري أعزير نبي أم لا وما أدري أتبع ملعون أم لا وما أدري ذو القرنين نبي أم لا)، حديث (ما أدري أعزير نبي أم لا) الحديث أخرجه أبو داود والحاكم وصححه من حديث أبي هريرة، ولما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خير البقاع في الأرض وشرها قال: (لا أدري) حتى نزل عليه جبريل عليه السلام فسأله فقال: (لا أدري) إلى أن أعلمه الله عز و جل أن خير البقاع المساجد وشرها الأسواق، حديث لما سئل عن خير البقاع وشرها قال: (لا أدري) حتى نزل جبريل الحديث أخرجه أحمد وأبو يعلى والبزار والحاكم وصححه ونحوه من حديث ابن عمر. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يسأل عن عشر مسائل فيجيب عن واحدة ويسكت عن تسع، وكان ابن عباس رضي الله عنهما يجيب عن تسع ويسكت عن واحدة، وكان في الفقهاء من يقول لا أدري أكثر مما يقول أدري، منهم؛ سفيان الثوري، ومالك بن أنس، وأحمد بن حنبل، والفضيل ابن عياض، وبشر بن الحرث).

7- طاهر بن عاشور في (التحرير والتنوير: 1/3785) يقول: (وقد جاء في القرآن تسمية خمسة عشر رسولا وهم: نوح، وإبراهيم، ولوط، وإسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، ويوسف، وهود، وصالح، وشعيب، وموسى، وهارون، وعيسى، ويونس، ومحمد صلى الله عليه وسلم، واثنا عشر نبيا وهم: داود، وسليمان، وأيوب، وزكريا، ويحيى، وإلياس، واليسع، وإدريس، وآدم، وذو الكفل، وذو القرنين، ولقمان، ونبيئة وهي مريم). وقوله (ونبيئة وهي مريم) محل نظر! والله أعلم.

8- أبو حيان في (تفسير البحر المحيط: 7/488) قال: (وظاهر قوله (قُلْنَا) أنه أوحى الله إليه على لسان ملك. وقيل: كلمه كفاحا من غير رسول كما كلم موسى عليه السلام ، وعلى هذين القولين يكون نبيا ويبعد ما قاله بعض المتأولين أنه إلهام وإلقاء في روعه لأن مثل هذا التخيير لا يكون إلا بوحي إذ التكاليف وإزهاق النفوس لا تتحقق بالإلهام إلا بالإعلام. وقال علي بن عيسى: المعنى (قُلْنَا) يا محمد قالوا (يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ) ثم حذف القول الأول لأن ذا القرنين لم يصح أنه نبي فيخاطبه الله ، وعلى هذا يكون الضمير الذي في قالوا . المحذوفة يعود على جنده وعسكره الذين كانوا معه).

9- ابن الجوزي في (زاد المسير: 5/184) قال: (واختلفوا هل كان نبيا أم لا؟ على قولين أحدهما أنه كان نبيا، قاله عبد الله بن عمرو والضحاك بن مزاحم. والثاني أنه كان عبدا صالحا ولم يكن نبيا ولا ملكا قاله علي عليه السلام وقال وهب: كان ملكا ولم يوح إليه).

10- ابن عادل (تفسير اللباب: 11/10) قال: (قال بعضهم: كان نبيا، لقوله تعالى: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ) والأولى حمله على التمكين في الدين، والتمكين الكامل في الدين هو النبوة، ولقوله تعالى: (وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) ومن جملة الأسباب النبوة، فمقتضى العموم أنه آتاه من النبوة سببا، ولقوله تعالى: (يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا) والذي يتكلم الله معه لا بد وأن يكون نبيا. قال ابو الطفيل، وسئل عن ذي القرنين: أكان نبيا أم ملكا؟ قال: لم يكن نبيا، ولا ملكا، ولكن كان عبدا أحب الله، فأحبه الله، وناصح الله فناصحه).

11- ابن عادل في (تفسير اللباب: 11/13) يقول: (واستدلوا بعموم قوله: (وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) على أنه كان نبيا كما تقدم، ومن أنكر نبوته قال: المعنى: وآتيناه من كل شيء يحتاج إلى إصلاح ملكه إلا أن تخصيص العموم خلاف الظاهر، فلا يصار إليه إلا بدليل).

12- والنيسابوري في تفسيره (غرائب القرآن ورغائب الفرقان: 5/208) يقول: (وقيل: كان نبيا لقوله تعالى: (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ) والتمكين المعتد به هو النبوة، ولقوله (وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا) وظاهره العموم فيكون قد نال أسباب النبوة، ولقوله: (قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا) وتكليم الله بلا واسطة لا يصلح إلا للنبي).


* * * * * *





رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
"ذي, القرنين", حصري:, نبوة


الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1)
 

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة


Facebook Comments by: ABDU_GO - شركة الإبداع الرقمية
تابعونا عبر تويترتابعونا عبر فيس بوك تابعونا عبر وورد بريس


Powered by vBulletin® Copyright ©2000 - 2024, Jelsoft Enterprises Ltd.
SEO by vBSEO Designed & TranZ By Almuhajir
new notificatio by 9adq_ala7sas

جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة لمنتدى آخر الزمان©

تابعونا عبر تويتر