#1
|
|||||||
|
|||||||
حصري: السحر والتسخير
السحر والتسخير الكاتب: بهاء الدين شلبي. من الحقائق التي يجب أن نتوقف عندها لنتعرف على مفهومها، أن السحر نظام تسخير من شياطين الجن لسحرة الإنس، فلا يوجد ساحر يسخر الجن كما يروج على ألسنة الكثيرين من عوام الناس، فسواء كان الساحر صاحب مبادرة الاتصال بالشياطين، أو أن الشياطين هم من بادروا بالاتصال به، فنتيجة الاتصال في كلا الحالتين واحدة، فالساحر أشرب الفتنة، واتبع ما يمليه الشيطان عليه من السحر، فسخر الساحر نفسه بذلك لتحقيق أهداف الشيطان، بينما قبل الشيطان تعميده كساحر لما وجد فيه ما يحقق له أهدافه، وذلك مرهون بأن يبيع الساحر نفسه للشيطان، في مقابل تحصيل ما يضره في الدنيا ولا ينفعه في الآخرة، لقوله تعالى: ﴿وَيَتَعَلَمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ وِلَبِئْسَ مَا شَرَوا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [البقرة: 102]. يبدو للبعض أحيانًا أن السحر قد يحقق منافع ظاهرة، على الأقل من وجهة نظر من يلجأ إليه باعتباره وسيلة لتحقيق بعض رغباته، ولا يجدون في أنفسهم غضاضة من صنع سحر كرواج التجارة، أو المحبة، وتحقيق غير ذلك الكثير مما تتوق إليه أنفسهم، فلا مانع لديهم من تحصيل النفع طالما لم يضروا أحدًا، بغض النظر عما يجهلونه غالبًا من خزي الممارسات السحرية المحرمة، فقديمًا إبان العصور الوسطى لجأ نبلاء أوربا وأشرافها الذين كانت تعج قصورهم بالسحر والسحرة إلى تقسيم السحر من حيث أهدافه إلى (سحر خير) و(سحر شر)، وذلك خشية إدانتهم بتهمة الهرطقة إذا ما ثبت ضلوعهم في مزاولة السحر، على أمل الإفلات من الوقوع تحت طائلة أحكام (محاكم التفتيش) المجحفة آنذاك، فأدرجوا السحر الذي يحقق المنافع تحت مصطلح (السحر الأبيض)، باعتباره نقيضا لمصطلح (السحر الأسود) المتعلق بتحقيق المضار، وهذا تقسيم فاسد بني على مفهوم باطل، وتدليس صريح بهدف تبرير مزاولة السحر طالما جر نفعًا، مما يوحي بوجود نوعين من الممارسات السحرية، ممارسات خيرة تحقق المنافع، وأخرى شريرة تحقق المضار، والحقيقة أن السحر (ممارسات سرية) يتصل الساحر من خلالها بكائنات خفية وهم شياطين الجن، ومن المستحيل الحكم على ما هو سري وخفي، ولكن من الشواهد تتبين حقيقة ما خفي وبطن، ولأن الله تعالى يعلم السر وأخفى فقد حرم السحر مطلقًا، لأن الشرك عنصر أساسي في بناء السحر ظاهرًا كان أو خفيًا، ولا عبرة بأي مزاعم مختلقة وادعاءات باطلة بعد حكم الله تعالى، فلا اجتهاد مع وجود نص. هناك فارق شاسع بين مفهوم النفع والضرر في الغاية، وبين مفهوم الخير والشر في الوسيلة، فمن يحتجون بهذا التقسيم الباطل يختارون السحر كوسيلة شريرة لا خير فيها لتحقيق غايات مختلفة إما نافعة وإما ضارة، فبما أن السحر مبني على الشرك، فهو وسيلة شريرة ومحرمة بنص شرعي لا التفاف حوله، والشر مهما حقق من رغبات فإن منتهى غايته تضر ولا تنفع، فإن كانت الأهداف نافعة، إلا أن تحصيلها بوسيلة شريرة صارت محرمة، مما أفقدها نفعها وصارت ضررًا، هذا لما تجره من عواقب وخيمة من تعجيل العقوبة الدنيوية، واستحقاق العقوبة الأخروية، فعلة تحريم السحر ليست بالنظر إلى ما يحققه من نتائج نافعة أو ضارة، ولكن لأن السحر وسيلة لها حكمها الشرعي المستقل بغض النظر عن ما يحققه من نتائج نافعة أو ضارة، فإما أن السحر خير يحل إتيانه، وإما أنه شر يحرم إتيانه، والثابت هو حرمة السحر وكفر فاعله. فمن يلجئون للسحر عادة هم في واقع الأمر يبررون غايات نبيلة باقتراف آثام جسيمة، فالغاية مهما كانت نبيلة فهي لا تبرر قبح الوسيلة، وهي لا تكسب الوسيلة مشروعية بعد أن حرمها الله تعالى، فإن كان هناك منافع قدرية قد كتبها الله تبارك وتعالى على الإنسان، إلا أنه ابتلاه بحرية اختيار الشر والخير كوسيلة لتحصيل هذه المنافع، فالابتلاء بالخير والشر هو اختبار لمدى إيمان الإنسان، قال تعالى: ﴿وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً﴾ [الأنبياء: 35]، فيقع البعض في حرمة ممارسة السحر على أنه نافع بناءًا على هذه الشبهة، ولكن بعد أن تشرب قلوبهم فتنة السحر يضربون عرض الحائط بحرمة إتيانه ويستحلون ممارسته، إذًا فالساحر منساق في السعي وراء غايته المنشودة، رغم علمه المسبق بحرمة سعيه وسوء عاقبته، بالإضافة إلى استجابته لأمر الشيطان، وإعراضه عن أمر الله تبارك وتعالى، وفي هذا دليل على أنه مسخر للشيطان، يحركه كيف يشاء، وفق أهدافه، وحسب مصالحه الخاصة. وهذه المنافع ليست حيوية تضطر الإنسان إلى تحصيلها بفعل محرم وهو السحر، فبدونها لا يفقد الإنسان حياته، قياسا لى من اضطر إلى أكل محرم بقدر يبقي على حياته أو يسد جوعته، إن كانت الضررات تبيح المحذظورات فيرفع الله بها الإثم عن المضطر، إلا أنها لا تحل حراما، ويبقى الأصل قائما بحرمة المحظورات مستوجبة للإثم لم يتغير حكمها، ولكن للضرورة يغفر الله هذا الإثم، قال تعالى: (إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [البقرة: 173]، والضرورة غير مطلقة الحدود، إنما حددها الله تعالى بشرط مقيد عدم البغي والعدوان من قوله تعالى: (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ). قال المفسرون: (بغير طالب للمحرم للذة أو استئثار على مضطر آخر، ولا متجاوز سد الجوعة). (1) فالساحر يتلذذ بهذه المنافع الظاهرة، والتي بدونها لا يفقد حياته، إذًا فليس ثمة ضرورة حيوية ترخص له محظورًا، حتى ولو كان السحر للحماية أو للنجاة من الموت فإن السحر لا سلطان له على الأقدار المكتوبة، والساحر يؤثر نفسه على حساب غيره، بل تجاوز قدر سد حاجته فينال حقه ويجور على حق غيره، وكلاهما بغي وعدوان صريحين يخالفان الشرط الوارد في النص الشرعي. فرغم كونها رغبات ملحة وحق مشروع، إلا أن تحقيقها بواسطة السحر يخضعها لقوانين عالم الجن وفق ضوابط ونظم سرية خاصة تناقض الإيمان بالله تعالى، ليسيطر شياطين الجن بخصائص قدراتهم الفائقة على إرادة المسحور، فالوسيلة واحدة في جميع الأحوال مهما تغيرت الغايات، وتحقيق المطلوب بالسحر لا يتم إلا بطريقة تفوق طبيعة قدرات البشر، لذلك فالسحر ضرر محض لقوله تعالى: ﴿وَيَتَعَلَمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنْفَعُهُمْ﴾ (البقرة: 102)، فالمنفعة الظاهرة تنتفي أهميتها في مقابل أضرار عظيمة قد تخفى عنا، وجهلنا بهذه الأضرار ليس عذرًا يبرر مزاولة السحر، وقد حرمه الله تعالى، ونهى النبي صلى الله عليه وسلم عن مجرد الذهاب إلى الساحر. إن رواج التجارة مطلب حيوي، وحق مشروع لكل تاجر، ولكن بواسطة السحر تروج تجارة أحدهم على حساب حرية اختيار الزبون، فربما يختار المستهلك تحت تأثير السحر سلعة لا تناسب ذوقه الخاص، رغم جودتها وسعرها المناسب، ولكن بمجرد استخدامها يندم على ما يظن أنه سوء اختيار منه، فكم منا اشترى سلعة وفرح بها جدًا ثم ندم على سوء اختياره، ليكتشف أنه لم يوفق في اقتناء سلعة تناسب ذوقه الخاص، أو لم يوافق اختياره احتياجاته الفعلية، ولا يدري المشتري أنه اقتناها مسيرًا تحت تأثير (سحر رواج التجارة)، فيضطر على مضض لاستخدام ما لا يناسبه، أو يغرم شراء سلعة جديدة بمواصفات مناسبة، بينما يتخلص من السلعة التي غرم ثمنها، وانتشار مثل هذا السحر قد يثري البعض، ولكن على حساب إهدار أموال الآخرين. هذا بخلاف أن هذا النوع من السحر يستخدمه بعض التجار لحسم المنافسات التجارية فيما بينهم، فتندفع الزبائن على تاجر لتبور سلعة الآخر، فأحدهم نال رزق مقدر وحق مشروع بواسطة السحر، لكنه حصل على رزق كان من حق تاجر آخر، فنال رزقه ورزق غيره معه، وهذا ولابد تسبب في الإضرار بالتاجر الآخر، إذًا فقد نال الساحر أكثر من حقه المشروع ورزقه المقدر، وطالما لم يقدر للساحر هذا الرزق فسوف لن ينتفع به، وإن لم يتخلص منه سريعًا لكان طامة عليه، وإن بعضهم يخدع نفسه فيزعم أن هذه بركة من عند الله، لأن كله معمول بالقرآن! للأسف يكذب ويصدق كذبه، فإن كانت حلالاً لما قام بها في السر خشية أن يعلم الناس، هذا بخلاف تدنيس كتاب الله بإقحامه في مثل هذه الأعمال الكفرية، فهذه سرقة فعلية للزبائن إلا أنها تمت بواسطة شياطين الجن، بدلاً من أن تتم بواسطة لصوص من البشر، فالوزر هنا مضاعف لأنه سرقة وشرك، فإن غفر الله السرقة بمشيئته، فإنه لا يغفر الشرك لأن الشرك أعظم الآثام، قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 48]. المحبة ضرورة ملحة في إطار العلاقات الإنسانية، وحق مشروع لكل إنسان أن يتبادل المحبة مع الآخرين، ولكن تحت تأثير السحر يبدر من البعض تصرفات لا إرادية توحي بالمحبة الظاهرة، وهذا يتم نتيجة حضور (خادم السحر) على جسد المسحور والتحام أجهزة مخهما معًا، وبذلك تنتقل أفكار ومشاعر الجني المفتعلة تلقائيًا إلى المسحور، وبدرجة حضور عالية يستطيع الجني السيطرة على الجهاز العصبي للمسحور فيسلبه إرادته أيضًا، ليتغلب بمشاعره المصطنعة على المشاعر الطبيعية للمسحور، لدرجة عجزه عن التمييز بين مشاعره ومشاعر الجني، أو الفصل بينهما، فينساق وراء هذه المشاعر وكأنها نابعة من ذاته، فيصبح بذلك مسخرًا مسلوب الإرادة، لتنتابه حالة غير مبررة من الولع والهيام، وقد يلتقم الشيطان إحليله فينفخ فيه، ليصيبه بشبق وسعار جنسي لا يطفئ لهيبه إلا لقاء محبوبه، فيعجز عن تبرير أو وقف ما يبدر منه من تصرفات لا تتفق ومشاعره الحقيقية، وربما تتعارض مع أخلاقياته التي نشأ عليها، وتخالف ما يؤمن به من معتقدات دينية، وما ذكرته هو طرف من كيفية تنفيذ الجن (لسحر المحبة)، وإلا فالقائمة تتسع لأساليب أكثر من ذلك بكثير، فهناك ما هو أشد استحكامًا وأكثر تعقيدًا، إن لم يدركها المعالج فحتمًا سيخفق في التشخيص السليم، وبالتالي يتعذر علاج المريض. يجب أن نلتفت إلى تفوق قدرات الجن بما يتيح لهم بمشيئة الله تعالى تسخير البشر، وذلك بالتحكم في وظائف الجسم المترابطة فيما بينها، مما يمنحهم وفرة في أساليب تنفيذ النوع الواحد من السحر، ولتفاوت قدرات الجن فقد يعلمها البعض منهم، ويجهلها البعض الآخر، وقد يقدر عليها صنف معين من الجن حباهم الله تعالى بخصائص قدرات تؤهلهم لأدائها بتميز فريد، بينما تفتقر أصناف أخرى لنفس القدرات، ولكثرة الأساليب وتنوعها وشدة تعقيدها، فإنه ينقص أغلب السحرة الإلمام بها مجتمعة، خاصة من لم ينالوا قسطًا من التعليم يعجزون عن الربط بينها، هذا بسبب اتصال بعضها بفرعين هامين من فروع الطب البشري (علم التشريح Anatomy) و(علم وظائف الأعضاء Physiology)، لذلك فغالبًا لا يتدخل عوام السحرة في اختيار طريقة الجن في تنفيذ السحر، مما يحدو بالجن لاختيار أسهل الطرق عليهم، وفقًا لمقدار عبودية الساحر لهم، مما يفقد السحر حبكة الصنعة،، فيأتي السحر ضعيفًا واهنا لا يصمد أمام الملمات، وإن كان لطريقة التنفيذ أهمية بالغة في تحقيق مرادهم باستحكام جيد، إلا أنهم لا يبالون بتجديد السحر على أن يغرموا مشقة صنعه بإتقان، والمرهونة بترقيهم في العلم والعبودية للشيطان، فهم خلاف من نالوا قسطًا وافرًا من التعليم يؤهلهم لاختيار طريقة سحر أشد تأثيرًا، وأعقد في كشف ملابساتها على المسلمين من الإنس والجن. نستطيع القول بأن السحر مقيد بالتعامل مع خصائص المادة، فإذا كان السحر على الإنس خاضعًا (لخصائص قدرات الجن)، إلا أن قدراتهم محدودة في إطار السيطرة على (خصائص مادة الإنسي)، فإن الله قد حبا الجن بقدرات خاصة تفوق قدرات الإنس، إلا أن لمادة الإنس خصائص فيزيائية وكيميائية تحكم تعامل الجن معها، فإذا امتلك الإنس نفس قدرات الجن وعلمهم لتمكنوا من التحكم في المادة الإنسية على نحو فائق يبهر بني جنسهم، وبالفعل فإن الابتكارات العلمية مكنت الإنسان من السيطرة على خصائص المادة فطوعها وفق رغباته، قال تعالى: ﴿يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ﴾ [الرحمن: 33]. فالنفاذ من أقطار السموات والأرض مشروط بسلطان، وهذا السلطان لا يخرج عن إطار العلم بالسنن الكونية التي أودعها الله خصائص مادة كل شيء، فبالسنن الكونية سيطر الإنسان على الحديد ، وجرى في الطرقات، وغاص في البحار، وطفا على الماء، وطار في الهواء، ونطقت الأبواق، وكل هذا كان يبدو مستحيلاً في مراحل الجهل بالسنن الكونية لمادة الحديد. وعلى هذا فإذا كان الإنس يستطيعون بالعلم السيطرة على مادة عالمهم، فنفس الأمر ينطبق على الجن أيضًا بالنسبة لخصائص مادة عالمهم، واضعين في الاعتبار اختلاف خصائص مادة كلاً من العالمين، بالإضافة إلى تفوق خصائص مادة الجن على خصائص مادة الإنس، وإذا كان الجن قد خلقوا قبلنا فهذا ولابد أتاح لهم فرصة كبيرة ليزدادوا علمًا وخبرة ودراية بخصائص مادة عالمنا المكشوف لهم، ولتفوق خصائص مادتهم على مادتنا وبسبب تخفيهم عنا فنحن أقل علمًا بخصائص عالمهم، لذلك فإن تدخل الجن بخصائص قدراتهم وبعلمهم الواسع بخصائص مادة عالم الإنس أهلهم للتحكم في عالم الإنس بشكل يذهل عقول البشر، وهذا مرجعه جهلنا بالسنن الكونية التي يتعامل الجن بها، ولو أتيح لنا نفس العلم والقدرات لما حدث هذا الانبهار، والأشد دهشة أن يعضلنا أحدهم بالسؤال عن كيفية قيام الجن بهذه الأمور الفائقة، فلولا عجزنا عن إدراك الكيف ما تمكن الجن من التداخل في عالمنا، وهذا التخفي هو من دلالات معنى السحر. إن الاكتشافات العلمية المتتالية، تثبت قطعيًا بما لا يدع مجالاً للشك، مدى سعة دائرة جهلنا بخصائص مادة عالمنا، هذا في مقابل ضآلة قدراتنا على التبحر في العلم، فمهما بلغنا حدًا واسعًا من العلم فستظل قدراتنا خاضعة للظن، بدليل قبولها للتطور كل يوم، قال تعالى: ﴿حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ﴾ [يونس: 24]، فإذا كنا عاجزين عن السيطرة والتحكم في كل ما هو إنسي لمحدودية قدراتنا العلمية والعملية، رغم أنه عالم منظور ومحسوس لدينا، فإنه من المستحيل علينا إدراك خصائص عالم الجن الفائقة على عالم الإنس، وهو عالم خفي مغيب عنا، ولكن من الممكن التعرف على حقيقة وجودها فيما أوردته النصوص الشرعية، ومن واقع الاحتكاكات بين العالمين التي أفرزت لنا معلومات وفيرة تخللت الأحداث والتجارب المسجلة، مما منحنا الفرصة للتعرف بخصائصهم، ولولا الفصل بين الثقلين، لتخيلنا ما يكون عليه وضع عالمنا إذا ما تدخل الجن بعلمهم الفائق بخصائص مادة الإنس، وهذا هو السحر لا يتجاوز حد السيطرة على المادة والتلاعب بها، أما المشاعر والمعتقدات والحياة والموت والأرزاق فكل هذا لا يملك الجن أو الإنس أن يتحكموا في شيء منه، ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا، لكن من الممكن بالخديعة والاحتيال التلاعب بمشاعر البشر تجاه بعضهم بعضًا، وهذا وارد حدوثه بيننا كبشر، ولا يخرج عن نطاق السنن الكونية. فالحقيقة أن السحر لا يدخل المحبة في القلوب، وإن كان له سيطرة على الحواس الخمس والذاكرة والانتباه وغير ذلك، إلا أنه لا يتحكم في مشاعر الإنس والجن فيتنقل به من محبة إلى كراهية أو العكس، بدليل أنه بمجرد زوال السحر يتراجع المسحور عن ولعه وتخبو مشاعره، وبهذا ينال المسحور لأجله مشاعر زائفة بتأثير من الجن، فهي لا تعدو كونها محبة مفتعلة من الجن، والمريض ليس إلا مجرد واجهة تخفي دور الجن ورائها، فلو تمت الزيجة تحت تأثير السحر بموافقة طرف مسير الإرادة، لفقد الزواج أحد أهم أركانه وهو الإيجاب والقبول، وبهذا تستحل الفروج بغير ما أحل الله تعالى، لأن الإيجاب والقبول لا يتحققان إلا في ظل حرية الاختيار، وليس في ظل الإكراه والتسيير. لذلك لا يلجأ لمثل سحر المحبة إلا جاهل بالسحر، أو شخص استحوذت شهوته ونزواته على علقه فلا هم له إلا إشباع غرائزه وإرضاء رغباته، بغض النظر عن احترام خصوصيات الآخرين ومراعاة مصالحهم، لذلك عادة ما يلجأ إلى هذا النوع من السحر أهل الفن والطرب لتشق شهرتهم في الأفاق، وأصحاب الشهوات والمجون لإشباع غرائزهم، وأهل العشق والهوى لإطفاء لوعتهم بنيل الحبيب، وأكثر ما يروج هذا السحر بين المتزوجين، فكل طرف من الزوجين يريد أن يستأثر بالطرف الآخر، سواء بدافع المحبة المفرطة والغيرة، أو الاستحواذ على ممتلكات الطرف الآخر، فبالسحر يسخر البشر بعضهم بعضًا عن طريق الجن، وربما هذا تفسير لكثير من التصرفات التي تبدر من الكثيرين حولنا ولا نجد لها مبررًا، وقس على هذا من يعتلون أعلى المناصب ويترقون في وظائفهم بتسخير رؤسائهم بالسحر، لنجد أن الأمر وسد لغير أهله، بينما الأجدر بهذا المنصب يقف صريع حيرته يضرب كفًا بكف، ولا يدري حقيقة ما تم في الخفاء، فقد باتت الرشوة والمحسوبية من الأساليب الغابرة، وحل مكانها السحر كوسيلة أكثر سرية وأمنًا، والسحر الأقوى هو الذي يغلب ويتفوق.
المصدر: منتـدى آخـر الزمـان
|
الكلمات الدلالية (Tags) |
السحر, حصري:, والتسخير |
الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 1 ( الأعضاء 0 والزوار 1) | |
|
|